للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

دقة تذهل كل من يقف على وضعه لعروض الشعر ورفعه لصرح النحو ورسمه المنهج الذي ألف عليه معجم العين أول معجم في العربية. ولما أدركته الشهرة لم يستغلها لنفسه وتحقيق ما حققه بعض معاصريه من الثراء العريض، بل مضى مزدريا للشهرة وما قد يطوى فيها من مجد مادي، مكتفيا بكفاف العيش، وفي ذلك يقول النضر بن شميل أحد تلاميذه: "أقام الخليل في خص من أخصاص البصرة لا يقدر على فلس, وأصحابه يكسبون بعلمه الأموال".

وعلى هذا النحو كان يزدري الخليل متاع الحياة الدنيا الذي كان الناس يشغفون به من حوله، ومتاع واحد هو الذي كان يلتمسه ويسعى إليه ويلح في السعي، هو المتاع العقلي الذي جعله يتكلف الجهد العنيف الممضّ في فتح أبواب العلوم اللغوية التي طال على العلماء من قبله ومن حوله قَرْعها دون أن تنفتح لهم، حتى إذا مستها عصاه السحرية انفتحت أغلاقها وفارقتها طلاسمها، وذلت له وانقادت. وأول ما يلاحظ من ذلك اكتشافه علم العروض اكتشافا ليس له سابقة ولا تدانيه لاحقة، إذ استطاع أن يرسمه بكل أوزانه وحدوده وتفاعيله وتفاريعه، غير مبق لمن جاءوا بعده شيئا يضيفونه إليه. وهو يحمل في تضاعيفه ما يشهد بتمثله تمثلا رائعا للنغم وعلم الإيقاع ومواضعه, كما يحمل ما يشهد بإتقانه لنظريات العلوم الرياضية في عصره علما وفقها وتحليلا، وخاصة نظريتي المعادلات، والتباديل والتوافيق، فقد اشتق له تفاعيل خاصة، وأدارها في دوائر كدوائر المهندسين مستخدما إشارات من النقط والحلقات تصور ما يجري في التفعيلات من زحافات، كما تفسح لأجزائها في التقدم والتأخر، بحيث تجمع الأوزان العروضية التي عرفها العرب وما لا يحصى من أوزان جديدة لم يعرفوها ولا ألفوها، مما أتاح للعباسيين أن ينظموا على أوزان جديدة أهملها أسلافهم, ولم يودعوا فيها شيئا من منظوماتهم.

ولم يستغل الخليل نظرية التباديل والتوافيق الرياضية في وضعه علم العروض فحسب، فقد استغلها أيضا في وضع منهج قويم لمعجم العين المشهور، إذ بناه على تقليب كل الصيغ الأصلية، بحيث تندرج فيه مع كل كلمة الكلمات الأخرى التي تجمع حروفها, وتختلف في ترتيبها بتقديم بعض منها على بعض،

<<  <   >  >>