للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فارس نفسها، ولعلها كانت من الآيات المبشرة للعرب بأن الاستبسال يمكن أن يعوض قلة العدد في مقاومة إحدى الدولتين الكبيرتين اللتين حكمتا الشرقين الأدنى والأوسط في ذلك الحين وهي دولة الفرس.

اشتهرت واقعة هذه الحرب باسم واقعة ذي قار، وقص المؤرخون المسلمون من أخبارها أن النعمان الثاني حينما تخوف من غدر كسرى به ترك بعض ودائعه من الأموال والأسلحة عند هانئ بن مسعود الشيباني، أو هو هانئ بن قبيصه بن مسعود في رواية الطبري، أحد رجالات ربيعة وبكر بن وائل، فلما مات النعمان في سجن الفرس كلف كسرى إياسًا بن قبيصة عامله على الحيرة بأن يستردها من هانئ فرفض هذا الأخير أن يفرط فيما اؤتمن عليه. فأمر كسرى بإعداد جيش من الولايات الفارسية والعربية الحدودية وأمر عليه إياسًا بن قبيصة كما ذكرنا.

وتلاقى هذا الجيش مع قبائل بكر وحلفائها في منطقة ذي قار على مبعدة قليلة من الحيرة. واستظهر الفرس وأعوانهم على العرب في يومهم الأول نظرًا لكثرة أعدادهم وما استعانوا به من الفيلة، ولتهيب بعض العرب منهم، ولكنهم ما لبثوا حتى جزعوا من شدة الهجير واحتمال تعرضهم للعطش فتقهقروا وكانت بداية النصر للعرب فتبعوهم وشاركت النساء الرجال في شحذ العزائم، بل وصحت ضمائر بعض القبائل العربية المظاهرة للفرس فاستعدت للتخلي عنهم حين يجد الجد، وفي بطحاء ذي قار توالت أيام قليلة وجليلة تحطمت فيها عزائم جيوش الفرس وأتباعهم من شدة هجمات العرب وشدة العطش حتى هزموا هزيمة منكرة في عام تفاوتت آراء المؤرخين في تحديده بين ٦٠٩م و ٦١١م. وعن هذه الموقعة قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "هذا أول يوم انتصفت العرب فيه من العجم وبي نصروا".

وليس ما يعرف عن مصير إياس بن قبيصة بعد هذه الموقعة إن كان قد استمر على حكم الحيرة لفترة بعدها أم عزله كسرى بعد أن خاب أمله في إخلاص العرب لحكمه. وعلى أية حال فقد حكمت الحيرة١٧ عامًا أو نحوها ٦١٤ - ٦٣١م بحكم فارسي مباشر. ووليها فارسي يدعى آزادبة عجز عن أن يبسط نفوذه على ما في خارجها، كما نافسه في عامه الأخير شاب من نسل المناذرة يدعى المنذر ويلقب بالمغرور، ثم أتت نهايتهما معًا بالفتح الإسلامي في عام ٦٣٢م أو ٦٣٣م.

تلك كانت الخطوط العامة للاتجاهات السياسية والحربية لدولة الحيرة. أما حياتها الاجتماعية، فأهم ما يذكر لها أنها جمعت بين تقاليد العرب وبين رفاهة الفرس، فتتوج ملوكها بالتيجان على عادة الأكاسرة، وأمروا بالحجاب بينهم وبين الناس مثلهم، واتحذوا الروادف أشبه الوزراء أو النواب، وفتحوا بلاطهم للأدباء

<<  <   >  >>