حملة أبرهة بما سبق التعقيب به في الفصل نفسه، وعوضًا عما طمع فيه من إضعاف مكة وهدم كعبتها، أصبح فشله فيها من عوامل ازدياد شهرتها.
وعندما انقضى عهد والديه القصير، ونجح سيف بن ذي يزن في إجلاء الأحباش عن اليمن بمعونة الفرس. ترأس عبد المطلب شيخ قريش وفدها لتهنئته.
وقرن زيارته بتجديد اتفاقيات مكة التجارية مع كبار أقيال اليمن وأمراء اليمامة.
كما جدد من ناحية أخرى اتفاقياتها مع ملوك غسان والحيرة.
وأضافت بعض المصادر العربية نبأ محاولة دبلوماسية استهدف البيزنطيون منها ضمان ولاء مكة أو تبعيتها السياسية لهم، حيث أيدوا أحد سادة قريش وهو عثمان بن الحويرث, وكان قد عدل عن الوثنية وتنصر. فيكون ملكًا على مكة من قبلهم. وروي أنه جمع كبار قومه ولوح لهم بقوة قيصر الروم وثرائه، وسيطرته على مجالات التجارة في أملاكه، ولكنهم رفضوا وعده ووعيده، ورفضوه هو أيضًا. وكان في بعدهم عن تناول الروم وحاجة الشام إلى وساطتهم التجارية ما أنجاهم من أي رد فعل خارجي مباشر.
ومع هذه التجارب ظلت قريش تؤثر الحياد بين القوى الكبرى والمتنازعة في عصرها، كي تضمن أمن تجارتها وأمن حجيجها، ولكي يزداد المتعاملون معها. ووقفت في منتصف الطريق ما استطاعت بين عرب الشمال وعرب الجنوب، وبين الحيرة وغسان، وبين الفرس والروم.
وليس كثيرًا ما ارتآه البعض من أن اتساع الأهمية الدينية والتجارية لمكة قد جعل منها ملتقى لقوى العرب المتفرقة وبداية لجمعهم في إطار واحد ذي تقاليد قومية مشتركة.
وبحكم طابعها الحضاري ونشاطها وأسفارها الخارجية، اتسعت مكة لأخلاط كثيرة من العقائد الوضعية والعقائد الكتابية والحنيفية، وأخلاط أخرى من طوائف العرب والأجانب أحرارًا وموالي وأرقاء وجواري، مما أثرى لغتها وثقافتها، وأشاع فيها عملات وأوزانًا وصناعات فارسية وبيزنطية ويمنية. ومن طريف ما يروى أن نجارًا أو بناء قبطيًّا، أي: مصريًّا أو روميًّا بالتبعية، يدعى باخوم اشترك في إعادة بناء الكعبة المشرفة بعد أن تطلب بنيانها إصلاحه قبيل عهد البعثة النبوية، فصنع لها سقفًا مسطحًا يرتكز فيما روى الأزرقي على دعائم وعمد. وكانت قريش قد استخدمت لها أخشاب سفينة حبشية أو رومية دفعها الريح إلى ساحل الشعبية حيث عطبت فركب إليها جماعات من قريش وأخذوا خشبها.
ولم يكن سلام مكة سلامًا مطلقًا أو دائمًا، ولم تكن تستطيع أن تنأى بنفسها