للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فقلت لشيخ جلست إليه: لقد رأيت في قريتكم عجبا قال: وما رأيت؟ فقصصت عليه قصة القبور قال: فحديثهم أعجب مما رأيت على قبورهم.

قال: فقلت: حدثني.

قال: كانوا ثلاثة إخوة أمير يصحب السلطان ويؤمر على المدائن والجيوش وتاجر موسر مطاع في خاصته وزاهد قد تخلى لنفسه وتفرد لعبادته.

قال: فحضرت أخاهم العابد الوفاة فاجتمع عنده أخواه وكان الذي يصحب السلطان منهم قد ولي بلادنا هذه أمره عليها عبد الملك بن مروان وكان ظالما غشوما متعسفا فاجتمعا عند أخيهما لما احتضر فقالا له: أوص قال: لا والله ما لي من مال فأوصي فيه ولا لي على أحد دين فأوصي به ولا أخلف من الدنيا شيئا فأسلبه.

فقال له: أخوه ذو السلطان: أي أخي! قل لي ما بدا لك فهذا مالي بين يديك فأوص منه بما أحببت وأنفذ منه ما بدا لك واعهد إلي بما شئت قال: فسكت عنه.

فقال: أخوه التاجر: أي أخي! قد عرفت مكسبي وكثرة مالي فلعل في قلبك غصة من الخير لم تكن تبلغها إلا بالإنفاق فيها فهذا مالي بين يديك فاحتكم فيه فما أحببت ينفذ لك أخوك.

فأقبل عليهما فقال: لا حاجة لي في مالكما ولكني سأعهد إلكما عهدا فلا تخالفا عهدي قالا: اعهد قال: إذا مت فغسلاني وكفناني وادفناني على نشز من الأرض واكتبا على قبري:

وكيف يلذ العيش من هو عالم ... بأن إله الخلق لا بد سائله

فيأخذ منه ظلمه لعباد ... ويجزيه بالخير الذي هو فاعله

فإذا أنتما فعلتما ذلك فأتياني كل يوم مرة لعلكما أن تتعظا.

قال: ففعلا ذلك لما مات قال: وكان أخوه يركب في جنده حتى يقف على القبر فينزل فيقرأ ما عليه ويبكي. فلما كان في اليوم الثالث جاء كما كان يجيء مع الجند فنزل فبكى كما كان يبكي فلما أراد أن ينصرف سمع هدة من داخل القبر كاد ينصدع لها قلبه فانصرف مذعوراً فزعا. ً

فلما كان الليل رأى أخاه في منامه فقال: أي أخي! ما الذي سمعت من قبرك؟ قال: تلك هدة المقمعة قيل لي: رأيت مظلوما فلم تنصره.

<<  <   >  >>