قال: فأصبح مهموما فدعا أخاه وخاصته وقال: ما أرى أخي أراد بما أوصانا أن نكتب على قبره غيري وإني أشهدكم أني لا أقيم بين ظهرانيكم أبدا قال: فترك الإمارة ولزم العبادة وكتب إلى عبد الملك بن مروان في ذلك فكتب أن خلوه وما أراد.
فكان إنما يأوي الجبال والبراري حتى حضرته الوفاة في هذا الجبل وهو مع بعض الرعاة فبلغ ذلك أخاه فأتاه فقال: أي أخي! ألا توصي قال: بم أوصي؟ ما لي من مال فأوصي به ولكن أعهد إليك عهدا إذا أنا مت فبوأتني قبري فادفني إلى جنب أخي واكتب على قبري:
وكيف يلذ العيش من كان موقنا ... بأن المنايا بغتة ستعاجله
فتسلبه ملكا عظيما ونخوة ... وتسكنه القبر الذي هو آهله
ثم تعاهدني ثلاثا فادع لي لعل الله أن يرحمني.
قال: فمات ففعل به أخوه ذلك فلما كان اليوم الثالث من إتيانه إياه فدعا له وبكى عند قبره فلما أراد أن ينصرف سمع وجبة من القبر كادت تذهل عقله فرجع متقلقلا.
فلما كان من الليل إذا بأخيه في منامه قد أتاه قال ذلك الرجل: فلما رأيت أخي وثبت إليه فقلت: أي أخي! أتيتنا زائرا؟ قال: هيهات أخي! بعد المزار واطمأنت بنا الديار قلت: أي أخي! كيف أنت؟ قال: بخير ما أجمع التوبة لكل خير! قال: قلت: فكيف أخي؟ قال: ذلك مع الأئمة الأبرار قال: قلت: فما أمرنا قبلكم؟ قال: من قدم شيئا من الدنيا والآخرة وجده فاغتنم وجدك قبل فقرك.
قال: فأصبح أخوه معتزلا للدنيا قد انخلع منها ففرق ماله وقسم رباعه وأقبل على طاعة الله تعالى قال: ونشأ له ابن كأهيأ الشباب وجها وجمالا فأقبل على التجارة حتى بلغ منها وحضرت أباه الوفاة فقال له ابنه: يا أبت ألا توص؟ قال: والله يا بني! ما لأبيك مال فيوصي فيه ولكني أعهد إليك عهدا إذا أنا مت فادفني مع عمومتك واكتب على قبري هذين البيتين:
وكيف يلذ العيش من هو صائر ... إلى جدث تبلي الشباب منازله
ويذهب رسم الوجه من بعد صونه ... سريعا ويبلى جسمه ومفاصله