وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِالنَّظَرِ فِيمَا حَجَبَ عَنْهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمُ الِاطِّلَاعُ عَلَيْهِ عَادَةً إِلَّا بِخَارِقَةٍ، فَإِنَّهُ إِحَالَةٌ عَلَى مَا يَنْدُرُ التَّوَصُّلُ إِلَيْهِ، وَإِذَا تَأَمَّلْتَ الْآيَاتِ الَّتِي ذُكِرَ فِيهَا الْمَلَائِكَةُ وَعَوَالِمُ الْغَيْبِ لَمْ تَجِدْهَا مِمَّا أُحِيلَ عَلَى النَّظَرِ فِيهِ، وَلَا مَأْمُورًا بِتَطَلُّبِ الِاطِّلَاعِ عَلَيْهَا وَعَلَى ذَوَاتِهَا وَحَقَائِقِهَا؛ فَهَذِهِ التَّفْرِقَةِ كَافِيَةٌ فِي أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مَطْلُوبٍ النَّظَرُ فِيهِ شَرْعًا، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَطْلُوبًا؛ لَمْ يَنْبَغِ أَنْ يُطْلَبَ.
وَالثَّالِثُ:
أَنَّ أَصْلَ هَذَا التَّطَلُّبِ الْخَاصِّ فَلْسَفِيٌّ؛ فَإِنَّ الِاعْتِنَاءَ بِطَلَبِ تَجْرِيدِ النفس والاطلاع على العوالي الَّتِي وَرَاءَ الْحِسِّ إِنَّمَا نُقِلَ عَنِ الْحُكَمَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْفَلَاسِفَةِ الْمُتَعَمِّقِينَ فِي فُنُونِ الْبَحْثِ، مِنَ الْمُتَأَلِّهِينَ مِنْهُمْ وَمِنْ غَيْرِهِمْ، وَلِذَلِكَ تَجِدُهُمْ يُقَرِّرُونَ لِطَلَبِ هَذَا الْمَعْنَى رِيَاضَةً خَاصَّةً لَمْ تَأْتِ بِهَا الشَّرِيعَةُ الْمُحَمَّدِيَّةُ، مِنَ اشْتِرَاطِ التَّغَذِّي بِالنَّبَاتِ دُونَ الْحَيَوَانِ، أَوْ مَا يَخْرُجُ مِنَ الْحَيَوَانِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ شُرُوطِهِمُ الَّتِي لَمْ تُنْقَلْ فِي الشَّرِيعَةِ، وَلَا وُجِدَ مِنْهَا فِي السَّلَفِ الصَّالِحِ عَيْنٌ وَلَا أَثَرٌ، كَمَا أَنَّ ذِكْرَ التَّجْرِيدِ وَالْعَوَالِمِ الرُّوحَانِيَّةِ وَمَا يَتَّصِلُ بِذَلِكَ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ، وَكَفَى بِذَلِكَ حُجَّةً فِي أَنَّهُ غَيْرُ مَطْلُوبٍ، كَمَا سَيَأْتِي عَلَى أَثَرِ هَذَا بِحَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَالرَّابِعُ:
أَنَّ طَلَبَ الِاطِّلَاعِ عَلَى مَا غُيِّبَ عَنَّا مِنَ الرُّوحَانِيَّاتِ وَعَجَائِبِ الْمُغَيَّبَاتِ؛ كَطَلَبِ الِاطِّلَاعِ عَلَى مَا غُيِّبَ عَنَّا مِنَ الْمَحْسُوسَاتِ النَّائِيَةِ؛ كَالْأَمْصَارِ الْبَعِيدَةِ وَالْبِلَادِ الْقَاصِيَةِ، وَالْمُغَيَّبَاتِ تَحْتَ أَطْبَاقِ الثَّرَى؛ لِأَنَّ الْجَمِيعَ أَصْنَافٌ مِنْ مَصْنُوعَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، فَكَمَا لَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ بِجَوَازِ التَّعَبُّدِ لِلَّهِ قَصْدَ أَنْ يَطَّلِعَ الْأَنْدَلُسِيُّ عَلَى قُطْرِ بَغْدَادَ وَخُرَاسَانَ وَأَقْصَى بِلَادِ الصِّينِ؛ فَكَذَلِكَ لَا يَنْبَغِي مِثْلُهُ فِي الِاطِّلَاعِ عَلَى مَا لَيْسَ مِنْ قَبِيلِ الْمَحْسُوسَاتِ.
وَالْخَامِسُ:
أَنَّهُ لَوْ فُرِضَ كَوْنُ هَذَا سَائِغًا؛ فَهُوَ مَحْفُوفٌ بِعَوَارِضَ كَثِيرَةٍ، وَقَوَاطِعَ مُعْتَرِضَةٍ تَحُولُ بَيْنَ الْإِنْسَانِ وَمَقْصُودِهِ، وَإِنَّمَا هِيَ ابْتِلَاءَاتٌ يَبْتَلِي اللَّهُ بِهَا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute