للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْمُجَرَّدِ، وَاسْتِبْصَارًا فِيهِ، حَسْبَمَا أَعْطَاهُ شَاهِدُ النَّقْلِ، الَّذِي يصدِّقه الْعَقْلُ تَصْدِيقًا يَطْمَئِنُّ إِلَيْهِ، وَيَعْتَمِدُ عَلَيْهِ؛ إِلَّا أَنَّهُ بَعْدُ مَنْسُوبٌ إِلَى الْعَقْلِ لَا إِلَى النَّفْسِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ لَمْ يصِر كَالْوَصْفِ الثَّابِتِ لِلْإِنْسَانِ، وَإِنَّمَا هُوَ كَالْأَشْيَاءِ الْمُكْتَسَبَةِ، والعلوم المحفوظة، التي يتحكم عليها العقل، و [عليه] ١ يُعْتَمَدُ فِي اسْتِجْلَابِهَا، حَتَّى تَصِيرَ مِنْ جُمْلَةِ مُودَعَاتِهِ، فَهَؤُلَاءِ إِذَا دَخَلُوا فِي الْعَمَلِ؛ خَفَّ عَلَيْهِمْ خِفَّةً أُخْرَى زَائِدَةً عَلَى مُجَرَّدِ التَّصْدِيقِ فِي الْمَرْتَبَةِ الْأُولَى، بَلْ لَا نِسْبَةَ بَيْنَهُمَا٢؛ إِذْ هَؤُلَاءِ يَأْبَى لَهُمُ الْبُرْهَانُ الْمُصَدَّقُ أَنْ يَكْذِبُوا، وَمِنْ جُمْلَةِ التَّكْذِيبِ الْخَفِيِّ؛ الْعَمَلُ عَلَى مُخَالَفَةِ الْعِلْمِ الْحَاصِلِ لَهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ حِينَ لَمْ يَصِرْ لَهُمْ كَالْوَصْفِ، رُبَّمَا كَانَتْ أَوْصَافُهُمُ الثَّابِتَةُ مِنَ الْهَوَى وَالشَّهْوَةِ الْبَاعِثَةِ الْغَالِبَةِ أَقْوَى الْبَاعِثِينَ؛ فَلَا بُدَّ مِنَ الِافْتِقَارِ إِلَى أَمْرٍ زَائِدٍ مِنْ خَارِجٍ، غَيْرَ أَنَّهُ يَتَّسِعُ فِي حَقِّهِمْ؛ فَلَا يُقتصر فِيهِ عَلَى مُجَرَّدِ الْحُدُودِ وَالتَّعْزِيرَاتِ، بَلْ ثَم أُمُورٌ أُخر كَمَحَاسِنِ الْعَادَاتِ، وَمُطَالَبَةِ الْمَرَاتِبِ الَّتِي بَلَغُوهَا بِمَا يَلِيقُ بِهَا، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ.

وَهَذِهِ الْمَرْتَبَةُ أَيْضًا يَقُومُ الْبُرْهَانُ عَلَيْهَا مِنَ التَّجْرِبَةِ، إِلَّا أَنَّهَا أَخْفَى مِمَّا قَبْلَهَا، فَيَحْتَاجُ إِلَى فَضْلِ نَظَرٍ مَوْكُولٍ إِلَى ذَوِي النَّبَاهَةِ فِي الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ، وَالْأَخْذِ فِي الِاتِّصَافَاتِ السُّلُوكِيَّةِ.

وَالْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ:

الَّذِينَ صَارَ لَهُمُ الْعِلْمُ وَصْفًا مِنَ الْأَوْصَافِ الثَّابِتَةِ، بِمَثَابَةِ الْأُمُورِ الْبَدِيهِيَّةِ فِي الْمَعْقُولَاتِ الْأُوَلِ، أَوْ تُقاربها، وَلَا يُنظر إلى طريق حصولها؛


١ ساقطة من الأصل.
٢ لو عقدنا موازنة بين علماء السلف وعلماء العصور المتأخرة؛ لوجدنا الفرق بينهما من جهة الورع والقيام بفريضة الإرشاد واضحا جليا، ولم يكن هذا التفاضل فيما أحسب إلا لأن علماء السلف لا يقنعون بتصور الأحكام العملية حتى ينفذوا منها إلى معرفة أسرارها وأدلتها، وبعد أن كانت هذه الحجة تتدفق بسالكيها تتدفق السيل الجرار؛ ضرب التقليد الصلب أطنابه في النفوس، وأصبحت الرابطة بين العلم والعمل واهية.
"خ". قلت: انظر تفصيل ذلك عند ابن رجب في "فضل علم السلف على الخلف".

<<  <  ج: ص:  >  >>