للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَلَا يُقَالُ: إِنَّ هَذَا مُضَادٌّ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَصْدِ الشَّارِعِ لِلدَّوَامِ عَلَى الْأَعْمَالِ، وَقَدْ كَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِذَا عَمِلَ عَمَلًا أَثْبَتَهُ١؛ لِأَنَّا نَقُولُ: كَمَا يُطْلَقُ الدَّوَامُ عَلَى ما لا يُفَارَقُ أَلْبَتَّةَ كَذَلِكَ يُطْلَقُ عَلَى مَا يَكُونُ فِي أَكْثَرِ الْأَحْوَالِ، فَإِذَا تُرِكَ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ؛ لَمْ يَخْرُجْ صَاحِبُهُ عَنْ أَصْلِ الدَّوَامِ، كَمَا لَا نَقُولُ فِي الصَّحَابَةِ حِينَ تَرَكُوا التَّضْحِيَةَ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ: إِنَّهُمْ غَيْرُ مُدَاوِمِينَ عَلَيْهَا؛ فَالدَّوَامُ عَلَى الْجُمْلَةِ لَا يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ إِطْلَاقِهِ عَدَمُ التَّرْكِ رَأْسًا، وَإِنَّمَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْغَلَبَةُ فِي الْأَوْقَاتِ أَوِ الْأَكْثَرِيَّةُ، بِحَيْثُ يُطْلَقُ عَلَى صَاحِبِهِ اسْمُ الْفَاعِلِ إِطْلَاقًا حَقِيقِيًّا فِي اللُّغَةِ.

وَلَمَّا كَانَتِ الصُّوفِيَّةُ٢ قَدِ الْتَزَمَتْ فِي السُّلُوكِ مَا لَا يَلْزَمُهَا حَتَّى سَوَّتْ بَيْنَ الْوَاجِبِ وَالْمَنْدُوبِ فِي الْتِزَامِ الْفِعْلِ، وَبَيْنَ الْمَكْرُوهَاتِ وَالْمُحَرَّمَاتِ فِي الْتِزَامِ التَّرْكِ، بَلْ سَوَّتْ بَيْنَ كَثِيرٍ مِنَ الْمُبَاحَاتِ وَالْمَكْرُوهَاتِ فِي التَّرْكِ، وَكَانَ هَذَا النَّمَطُ دَيْدَنُهَا لَا سِيَّمَا مَعَ تَرْكِ أَخْذِهَا بِالرُّخَصِ؛ إِذْ مِنْ مَذَاهِبِهَا عَدَمُ التَّسْلِيمِ لِلسَّالِكِ فِيهَا مِنْ حَيْثُ هُوَ سَالِكٌ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي لَا تَلْزَمُ الْجُمْهُورَ، بَنَوْا طَرِيقَهُمْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ تَلَامِيذِهِمْ عَلَى كَتْمِ٣ أَسْرَارِهِمْ وَعَدَمِ إِظْهَارِهَا، وَالْخَلْوَةِ بِمَا الْتَزَمُوا مِنْ وَظَائِفِ السُّلُوكِ وَأَحْوَالِ الْمُجَاهَدَةِ خَوْفًا مِنْ تَعْرِيضِ مَنْ يَرَاهُمْ وَلَا يَفْهَمُ مَقَاصِدَهُمْ إِلَى ظَنِّ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ وَاجِبًا، أَوْ ما هو٤


١ مضى تخريجه "١/ ٥٢٦ و٢/ ٤٠٥"، وهو صحيح.
٢ كذا في "ط"، وفي غيره: "وإنما كانت"، وفي "م": "التزمت السلوك".
٣ وبذلك كانوا جارين على مقتضى القواعد المتقدمة؛ فلم يخالفوا الشريعة بعملهم. "د".
٤ في "ط": "وما هو".

<<  <  ج: ص:  >  >>