أما بعد؛ فقد مضت حركة الاجتهاد في الدين؛ قوية سديدة، مطردة نامية، خصبة الإنتاج، ميمونة الولائد؛ من منتصف القرن الثاني، حيث بدأ استقرار المذاهب بوضع الأصول، وتمييز العام منها الجامع بين المذاهب المختلفة، والخاص الذي ينفرد به مذهب عن مذهب آخر، وتتابع تولد المذاهب إلى منتصف القرن الرابع، فكلما قطع واحد منها دور التأصيل على يد مؤسسه ومتخذ أصوله؛ دخل في دور التفريع، وهو دور الاجتهاد المقيد؛ فتلاحقت المذاهب على دور التفريع إلى استهلال القرن الخامس، وهنالك تمحض الفقه لعمل جديد هو عمل التطبيق بتحقيق الصور وضبط المحامل؛ فكان اجتهاد جديد هو الاجتهاد في المسائل، ثم دخل الفقه في أوائل القرن السادس دون الترجيح، وهو دور اجتهاد نظري، يعتمد درس الأقوال وتمحيصها والاختيار فيها بالترجيح والتشهير، حتى انتهى ذلك الاختيار إلى عمل تصفية، برز في دور التقنين، بتأليف مختصرات محررة على طريقة الاكتفاء بأقوال تثبت، هي الراجحة المشهورة، وأقوال تلغى هي التي ضعفها النظر في الدور الماضي باعتبار أسانيدها أو باعتبار مداركها أو باعتبار قلة وفائها بالمصلحة التي تستدعيها مقتضيات الأحوال.
وبذلك وقف سير الفقه عند تلك المختصرات، وأقبل الفقهاء يجمعون دراساتهم حول المختصرات، مقتصرين في تخريج المسائل عليها في حال أن صورا من الوقائع الحادثة التي لم تشتمل تلك المختصرات على نصوص أحكامها كانت تتعاقب ملحة في طلب الأجوبة التي تحل مشاكلها، والأحكام التي تقرر وجهة السير فيها.
فكان ذلك ملفتا أنظار الفقهاء إلى ضيق النطاق الالتزامي الذي ضربوه على أنفسهم باقتصار على المختصرات، وحاديا بهم إلى الرجوع إلى المجال الأوسع: مجال الأقوال العديدة، والآراء المتباينة داخل كل مذهب، ذلك