للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْفَتْحِ بَعْدَ مَا خَالَطَهُمُ الْحُزْنُ وَالْكَآبَةُ؛ لِشِدَّةِ الْإِشْكَالِ عَلَيْهِمْ، وَالْتِبَاسِ الْأَمْرِ، وَلَكِنَّهُمْ سَلَّمُوا وَتَرَكُوا رَأْيَهُمْ حَتَّى نَزَلَ الْقُرْآنُ فَزَالَ الْإِشْكَالُ وَالِالْتِبَاسُ.

وَصَارَ مِثْلُ ذَلِكَ أَصْلًا لِمَنْ بَعْدَهُمْ؛ فَالْتَزَمَ التَّابِعُونَ فِي الصَّحَابَةِ سِيرَتَهُمْ مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَتَّى فَقُهُوا، وَنَالُوا ذِرْوَةَ الْكَمَالِ فِي الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ، وَحَسْبُكَ مِنْ صِحَّةِ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ أَنَّكَ لَا تَجِدُ عَالِمًا اشْتَهَرَ فِي النَّاسِ الْأَخْذُ عَنْهُ إِلَّا وَلَهُ قُدْوَةٌ وَاشْتُهِرَ فِي قَرْنِهِ بِمِثْلِ ذَلِكَ، وَقَلَّمَا وُجِدَتْ فِرْقَةٌ زَائِغَةٌ، وَلَا أَحَدٌ مُخَالِفٌ لِلسَّنَةِ١ إِلَّا وَهُوَ مُفَارِقٌ لِهَذَا الْوَصْفِ، وَبِهَذَا الْوَجْهِ وَقَعَ التَّشْنِيعُ عَلَى ابْنِ حَزْمٍ الظَّاهِرِيِّ٢، وَأَنَّهُ لَمْ يُلَازِمِ الْأَخْذَ عَنِ الشُّيُوخِ، وَلَا تَأَدَّبَ بِآدَابِهِمْ، وَبِضِدِّ ذَلِكَ كَانَ الْعُلَمَاءُ الرَّاسِخُونَ كَالْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَأَشْبَاهِهِمْ.

وَالثَّالِثَةُ: الِاقْتِدَاءُ بِمَنْ أَخَذَ عَنْهُ٣، وَالتَّأَدُّبُ بِأَدَبِهِ، كَمَا عَلِمْتَ مِنِ اقْتِدَاءِ الصَّحَابَةِ بِالنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَاقْتِدَاءِ التَّابِعِينَ بِالصَّحَابَةِ، وهكذا في كل قرن، وبهذا


١ في "م": "وجدت فرقة زائغة، ولا أحدا مخالفا للسنة".
٢ هو الحافظ أبو محمد علي ابن الوزير أحمد بن سعيد بن حزم القرطبي، كان شافعي المذهب ثم صار ظاهريا، وبلغ من الذكاء وغزارة العلم منزلة فائقة؛ فألف الكتب القيمة، وناضل عن كثير من حقائق الدين بالحجج الباهرة، ولكنه لم يهذب حاشية منطقه؛ فكان يرمي بشرر من عبارات الازدراء والغضاضة من شأن أئمة السلف، ولم يحتمل منه علماء عصره هذه السيرة الشاذة؛ فنهضوا في وجهه ودارت بينه وبينهم المناظرات حتى امتدت إليه يد الدولة وأبعدته عن وطنه، وتوفي بالبادية رحمه الله سنة "٤٥٦". "خ".
٣ أخص من الأمارة الأولى؛ لأن الاقتداء بمن أخذ عنه والتأدب بأدبه بعض العمل بما علم، وقد يؤخذ من وصفه لمالك بميزته عن أضرابه المجتهدين في هذه الأمارة، أنه لا يلزم من العمل بما علم أن يكون مقتديا بمن أخذ عنه، بل يغلب عليه العمل بما يراه باجتهاده، وإن لم يظهر عليه التأسي بنوع آداب أستاذه؛ تكون أمارة مستقلة. "د".

<<  <  ج: ص:  >  >>