للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لِتِلْكَ الْكُلِّيَّاتِ الْمُقَدَّمَةِ، وَبِنَاءً عَلَى تِلْكَ الْأُصُولِ الْمَحْكَمَةِ، فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً. فَالْأُصُولُ الْأُوَلُ بَاقِيَةٌ لَمْ تَتَبَدَّلْ وَلَمْ تُنْسَخْ؛ لِأَنَّهَا فِي عَامَّةِ الْأَمْرِ كُلِّيَّاتٌ ضَرُورِيَّاتٌ وَمَا لَحِقَ بِهَا، وَإِنَّمَا وَقَعَ النَّسْخُ أَوِ الْبَيَانُ عَلَى وَجْهِهِ١ عِنْدَ الْأُمُورِ الْمُتَنَازَعِ فِيهَا مِنَ الْجُزْئِيَّاتِ لَا الْكُلِّيَّاتِ.

وَهَذَا كُلُّهُ ظَاهِرٌ لِمَنْ نَظَرَ فِي الْأَحْكَامِ الْمَكِّيَّةِ مَعَ الْأَحْكَامِ الْمَدَنِيَّةِ، فَإِنَّ الْأَحْكَامَ الْمَكِّيَّةَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْإِنْصَافِ مِنَ النَّفْسِ، وَبَذْلِ الْمَجْهُودِ فِي الِامْتِثَالِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى حُقُوقِ اللَّهِ أَوْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ.

وَأَمَّا الْأَحْكَامُ الْمَدَنِيَّةُ، فَمُنَزَّلَةٌ فِي الْغَالِبِ عَلَى وَقَائِعَ لَمْ تَكُنْ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ بَعْضِ الْمُنَازَعَاتِ وَالْمُشَاحَّاتِ، وَالرُّخَصِ وَالتَّخْفِيفَاتِ وَتَقْرِيرِ الْعُقُوبَاتِ -فِي الْجُزْئِيَّاتِ لَا الْكُلِّيَّاتِ، فَإِنَّ الْكُلِّيَّاتِ كَانَتْ مُقَرَّرَةٌ مُحْكَمَةٌ٢ بِمَكَّةَ-، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، مَعَ بَقَاءِ الْكُلِّيَّاتِ الْمَكِّيَّةِ عَلَى حَالِهَا، وذلك٣ يُؤْتَى بِهَا فِي السُّوَرِ الْمَدَنِيَّاتِ تَقْرِيرًا وَتَأْكِيدًا، فَكَمُلَتْ جُمْلَةُ الشَّرِيعَةِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ بِالْأَمْرَيْنِ وَتَمَّتْ وَاسِطَتُهَا بِالطَّرَفَيْنِ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى عِنْدَ ذَلِكَ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [الْمَائِدَةِ: ٣] .

وَإِنَّمَا عَنَى الْفُقَهَاءُ بِتَقْرِيرِ الْحُدُودِ وَالْأَحْكَامِ الْجُزْئِيَّاتِ الَّتِي هِيَ مظان


١ في "د": "وجوهه".
٢ كما في قوله تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ} ... إلخ "الأنعام: ١٦٠"، وكما في قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ} ... إلى قوله: {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا} ... إلخ "هود: ١٠٦"، وكما في آيات: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} "الإسراء: ٢٣"، والتذيلات التي جاءت عقبها، وقوله: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى، وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} ... إلخ "النازعات: ٣٧"، ومثله كثير في تقرير الجزاءات الكلية. "د".
٣ كذا في "ط" -وفيه أيضًا: " ... السور المدنية"- وفي غيره: "وذلك"، وكتب "د": "لعله: "ولذلك".

<<  <  ج: ص:  >  >>