للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مُحَاسَبًا عَلَى تَرْكِهِ، مِنْ حَيْثُ كَانَ التَّرْكُ فِعْلًا، وَلِاسْتِوَاءِ نِسْبَةِ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ شَرْعًا، وَإِذْ ذَاكَ يَتَنَاقَضُ الْأَمْرُ عَلَى فَرْضِ الْمُبَاحِ، وَذَلِكَ مُحَالٌ؛ فَمَا أَدَّى إِلَيْهِ مِثْلُهُ.

وَأَيْضًا؛ فَإِنَّهُ إِذَا تَمَسَّكَ بِأَنَّ حَلَالَهَا حِسَابٌ، ثُمَّ قَضَى بِأَنَّ التَّارِكَ لَا يُحَاسَبُ، مَعَ أَنَّهُ آتٍ بِحَلَالٍ، وَهُوَ التَّرْكُ؛ فَقَدْ صَارَ الْحَلَالُ سَبَبًا لِطُولِ الْحِسَابِ وَغَيْرَ سَبَبٍ لَهُ، لِأَنَّ طُولَ الْحِسَابِ إِنَّمَا نِيطَ بِهِ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ حَلَالًا بِالْفَرْضِ، وَهَذَا تَنَاقُضٌ مِنَ الْقَوْلِ.

وَالثَّانِي:

أَنَّ الْحِسَابَ إِنْ كَانَ يَنْهَضُ سَبَبًا لِطَلَبِ التَّرْكِ؛ لَزِمَ أَنْ يُطلب تَرْكُ الطَّاعَاتِ مِنْ حَيْثُ كَانَتْ مَسْئُولًا عَنْهَا كُلِّهَا، فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} [الْأَعْرَافِ: ٦] ، فَقَدِ انْحَتَمَ عَلَى الرُّسُلِ -عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- أَنْ يُسْأَلُوا عَنِ الرِّسَالَةِ وَتَبْلِيغِ الشَّرِيعَةِ، وَلَمْ يَكُنْ هَذَا مَانِعًا مِنَ الْإِتْيَانِ بِذَلِكَ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْمُكَلَّفِينَ.

لَا يُقَالُ: إِنَّ الطَّاعَاتِ يُعارض طَلَبَ تَرْكِهَا طَلَبُهَا.

لِأَنَّا نَقُولُ: كَذَلِكَ الْمُبَاحُ، يُعَارِضُ طَلَبَ تَرْكِهِ التَّخْيِيرُ فِيهِ، وَإِنَّ فِعْلَهُ وَتَرْكَهُ فِي قَصْدِ الشَّارِعِ بِمَثَابَةٍ وَاحِدَةٍ.

وَالثَّالِثُ:

أَنَّ مَا ذُكِرَ مِنَ الْحِسَابِ عَلَى تَنَاوُلِ الْحَلَالِ قَدْ يُقَالُ: إِنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى أَمْرٍ خَارِجٍ عَنْ نَفْسِ الْمُبَاحِ، فَإِنَّ الْمُبَاحَ هُوَ أَكْلُ كَذَا مَثَلًا، وَلَهُ مُقَدِّمَاتٌ، وَشُرُوطٌ، وَلَوَاحِقُ لَا بُدَّ مِنْ مُرَاعَاتِهَا، فَإِذَا رُوعِيَتْ؛ صَارَ الْأَكْلُ مُبَاحًا، وَإِنْ لَمْ تُرَاعَ؛ كَانَ التَّسَبُّبُ وَالتَّنَاوُلُ غَيْرَ مُبَاحٍ.

وَعَلَى الْجُمْلَةِ؛ فَالْمُبَاحُ كَغَيْرِهِ مِنَ الْأَفْعَالِ لَهُ أَرْكَانٌ، وَشُرُوطٌ، وَمَوَانِعُ، وَلَوَاحِقُ تُرَاعَى، وَالتَّرْكُ فِي هَذَا كُلِّهِ كَالْفِعْلِ، فَكَمَا أَنَّهُ إِذَا تَسَبَّبَ لِلْفِعْلِ كَانَ تَسَبُّبُهُ مَسْئُولًا عَنْهُ، كَذَلِكَ إِذَا تَسَبَّبَ إِلَى التَّرْكِ كَانَ مَسْئُولًا عَنْهُ.

<<  <  ج: ص:  >  >>