للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أَوْ تَرَكَهَا بَعْضُ النَّاسِ١؛ لَمْ يَقْدَحْ ذَلِكَ, فَلَوْ فَرَضْنَا تَرْكَ النَّاسِ كُلِّهِمْ ذَلِكَ؛ لَكَانَ تَرْكًا لِمَا هُوَ مِنَ الضَّرُورِيَّاتِ الْمَأْمُورِ بِهَا، فَكَانَ الدُّخُولُ فِيهَا وَاجِبًا بِالْكُلِّ.

وَالثَّالِثُ:

كَالتَّنَزُّهِ٢ في البساتين، وسماع تغريد الحمام، والغناء المباح، وَاللَّعِبِ الْمُبَاحِ بِالْحَمَّامِ، أَوْ غَيْرِهَا؛ فَمِثْلُ هَذَا مُبَاحٌ بِالْجُزْءِ، فَإِذَا فُعِلَ يَوْمًا مَا، أَوْ فِي حَالَةٍ مَا؛ فَلَا حَرَجَ فِيهِ, فَإِنْ فُعِلَ دَائِمًا كَانَ مَكْرُوهًا، وَنُسِبَ فَاعِلُهُ إِلَى قِلَّةِ الْعَقْلِ, وَإِلَى خِلَافِ مَحَاسِنِ الْعَادَاتِ، وَإِلَى الْإِسْرَافِ فِي فِعْلِ ذَلِكَ الْمُبَاحِ.

وَالرَّابِعُ:

كَالْمُبَاحَاتِ الَّتِي تَقْدَحُ فِي الْعَدَالَةِ الْمُدَاوَمَةِ عَلَيْهَا وَإِنْ كَانَتْ مُبَاحَةً؛ فَإِنَّهَا لَا تَقْدَحُ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يُعَدَّ صَاحِبُهَا خَارِجًا عَنْ هَيْئَاتِ أَهْلِ الْعَدَالَةِ، وَأُجْرِي صَاحِبُهَا مُجْرَى الْفُسَّاقِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، وَمَا ذَلِكَ إِلَّا لِذَنْبٍ اقْتَرَفَهُ شَرْعًا، وَقَدْ قَالَ الْغَزَّالِيُّ: "إِنَّ الْمُدَاوَمَةَ عَلَى الْمُبَاحِ قَدْ تُصَيِّرُهُ صَغِيرَةً، كَمَا أَنَّ الْمُدَاوَمَةَ على الصغيرة تصيره٣ كَبِيرَةً"٤، وَمِنْ هُنَا قِيلَ٥: "لَا صَغِيرَةَ مَعَ


١ هذا في غير الأكل والشرب مثلا، أما هما؛ فلا، بل الذي يجري فيهما قوله تركها في بعض الأحوال؛ فقوله: "فلو فرضنا ترك الناس كلهم" يعني: أو فرضنا ترك الشخص لمثل الأكل والشرب دائما وكليا لكان ... إلخ، فهو مع كونه ذكر أحوالا كثيرة؛ اكتفى بافتراض الترك في بعضها فقط، مع اعتباره عموم الحكم لما بقي من وجوه الافتراض، ويمكن أن يقال نظيره في القسم الأول.
فكأنه قال في القسمين: ولو فرضنا ترك الشخص دائما وكليا, لكان تاركا للمندوب في الأول، وللواجب في الثاني فيما يكون فيه ذلك كالأكل والشرب. "د".
٢ في هذا القسم والذي بعده جعل الكلام في الشخص الواحد جزئيا وكليا؛ فتنبه. "د".
٣ في "ط": "تصيرها".
٤ في "إحياء علوم الدين" "٤/ ٢٢"، وانظر منه: "٣/ ١٢٩"، وهذا النوع الأخير عند المصنف قد يصعب التسليم به، خاصة وأنه أورده بلا أمثلة ولا أدلة، كما يصعب التفريق بينه وبين سابقه؛ ففي كل منهما "المداومة على بعض المباحات"، إلا أن نقول: إنها -أي: تلك المباحات- تصير محرمة بالإدمان عليها والإفراط فيها؛ لأنها حينئذ تصير هوى متبعا، وآفة مستحكمة، ومضيعة للعمر، وفي هذا من موجبات التحريم ما لا يخفى، ومن الأمثلة الجلية على هذا احتراف بعض الناس اليوم لبعض أنواع اللعب, فيصير الإنسان حرفته "لاعب"، وتصير حياته لعبا في لعب، وقريب من هذا ما يداوم عليه بعض الناس من قطع الساعات الطوال من كل أيامهم أو معظمها في المقاهي وما أشبهها من توافه الأمور وسفاسفها، أفاده الريسوني.
٥ في "ط": "قالوا".

<<  <  ج: ص:  >  >>