للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مَوْقِفَ الْعُبُودِيَّةِ بِخِلَافِ مَا إِذَا الْتَفَتَ إِلَى الْمُسَبَّبِ وَرَاعَاهُ؛ فَإِنَّهُ عِنْدَ الِالْتِفَاتِ إِلَيْهِ مُتَوَجِّهٌ شَطْرَهُ، فَصَارَ تَوَجُّهُهُ إِلَى رَبِّهِ بِالسَّبَبِ, بِوَاسِطَةِ التَّوَجُّهِ إِلَى الْمُسَبَّبِ، وَلَا شَكَّ فِي تَفَاوُتِ مَا بَيْنَ الرُّتْبَتَيْنِ فِي الْإِخْلَاصِ.

وَأَمَّا التَّفْوِيضُ؛ فَلِأَنَّهُ إِذَا عَلِمَ أَنَّ الْمُسَبَّبَ لَيْسَ بِدَاخِلٍ تَحْتَ مَا كُلِّفَ بِهِ, وَلَا هُوَ مِنْ نَمَطِ مَقْدُورَاتِهِ؛ كَانَ رَاجِعًا بِقَلْبِهِ إِلَى مَنْ إِلَيْهِ ذَلِكَ، وَهُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ؛ فَصَارَ مُتَوَكِّلًا وَمُفَوِّضًا، هَذَا فِي عُمُومِ التَّكَالِيفِ الْعَادِيَّةِ وَالْعِبَادِيَّةِ، وَيَزِيدُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعِبَادِيَّةِ أَنَّهُ لَا يَزَالُ بَعْدَ التَّسَبُّبِ خَائِفًا وَرَاجِيًا١، فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ٢ يَلْتَفِتُ إِلَى الْمُسَبَّبِ بِالدُّخُولِ فِي السَّبَبِ؛ صَارَ مترقبا له ناظرا إلى ما يئول إِلَيْهِ تَسَبُّبُهُ، وَرُبَّمَا كَانَ ذَلِكَ سَبَبًا إِلَى إِعْرَاضِهِ عَنْ تَكْمِيلِ السَّبَبِ اسْتِعْجَالًا لِمَا يُنْتِجُهُ؛ فَيَصِيرُ تَوَجُّهُهُ إِلَى مَا لَيْسَ لَهُ، وَقَدْ تَرَكَ التَّوَجُّهَ إِلَى مَا طُلِبَ بِالتَّوَجُّهِ إِلَيْهِ، وَهُنَا تَقَعُ حِكَايَةُ مَنْ سَمِعَ أَنَّ "مَنْ أَخْلَصَ لِلَّهِ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا ظَهَرَتْ يَنَابِيعُ الْحِكْمَةِ مِنْ قَلْبِهِ عَلَى لِسَانِهِ"٣؛ فَأَخَذَ -بِزَعْمِهِ- فِي الْإِخْلَاصِ لِيَنَالَ الْحِكْمَةَ، فَتَمَّ الْأَمَدُ وَلَمْ تَأْتِهِ الْحِكْمَةُ، فَسَأَلَ عَنْ ذَلِكَ؛ فَقِيلَ لَهُ: إِنَّمَا أَخْلَصْتَ لِلْحِكْمَةِ وَلَمْ تُخْلِصْ لِلَّهِ.

وَهَذَا وَاقِعٌ كَثِيرًا فِي مُلَاحَظَاتِ الْمُسَبَّبَاتِ فِي الْأَسْبَابِ، رُبَّمَا غطت ملاحظاتها


١ أي: جامعا بين الأمرين, بخلافه إذا نظر إلى المسبب دائما؛ فإنه يغلب عليه جانب الرجاء، ولا يخفى ما يترتب على ذلك من تضعضع همته وفتور نفسه عن الأعمال التكليفية. "د".
٢ هل هذا غير ما شرحه في الفصل التالي؟ ولا يخفى أن قوله: "فإن كان" مقابل لقوله: "إذا علم أن المسبب ... إلخ"؛ فالكلام هنا شامل للعادي والعبادي، كما هو شامل لهما في الفصل التالي؛ فكان يمكن الاستغناء بما يأتي عن هذا، على أنه لا خصوصية لبيان ابتناء مقام التفويض على ما سبق في ذكر الإعراض عن تكميل السبب، بل هذا شأن آخر يترتب على النظر للمسبب، ونسبته لموضوع التفويض كنسبته لمقام الصبر والشكر والإخلاص، وهي الأمور التي بناها على قطع النظر عن المسبب. "د".
٣ سيورده المصنف "٣/ ١٤٨"، ويصرح بأنه حديث، وهو ضعيف، ضعفه جماعة من الحفاظ كما سيأتي إن شاء الله تعالى مفصلا، والصحيح أنه من قول مكحول.

<<  <  ج: ص:  >  >>