للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الشَّرِيعَةَ إِنَّمَا جِيءَ بِالْأَوَامِرِ فِيهَا جَلْبًا لِلْمَصَالِحِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ غَيْرَ وَاجِبٍ فِي الْعُقُولِ؛ فَقَدْ ثَبَتَ فِي السَّمْعِ، وَكَذَلِكَ لَا يَصِحُّ أَنْ تُشْرَعَ لَهُمَا مَعًا بِعَيْنِ ذَلِكَ الدَّلِيلِ، وَلَا لِغَيْرِ شَيْءٍ لِمَا ثَبَتَ مِنَ السَّمْعِ أَيْضًا١؛ فَظَهَرَ أَنَّهَا شُرِعَتْ لِلْمَصَالِحِ.

وَهَذَا الْمَعْنَى يَسْتَمِرُّ فِيمَا مُنِعَ؛ إِمَّا أَنْ يُمْنَعَ لِأَنَّ فِعْلَهُ مؤدٍّ إِلَى مَفْسَدَةٍ، أَوْ إِلَى مَصْلَحَةٍ، أَوْ إِلَيْهِمَا، أَوْ لِغَيْرِ شَيْءٍ، وَالدَّلِيلُ جارٍ إلى آخره؛ فإذًا لا سبب مشروعا إِلَّا وَفِيهِ مَصْلَحَةٌ لِأَجْلِهَا شُرِعَ، فَإِنْ رَأَيْتَهُ وَقَدِ انْبَنَى عَلَيْهِ مَفْسَدَةٌ؛ فَاعْلَمْ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِنَاشِئَةٍ عَنِ السَّبَبِ الْمَشْرُوعِ.

وَأَيْضًا؛ فَلَا سَبَبَ ممنوعا إِلَّا وَفِيهِ مَفْسَدَةٌ لِأَجْلِهَا مُنِعَ، فَإِنْ رَأَيْتَهُ وَقَدِ انْبَنَى عَلَيْهِ مَصْلَحَةٌ فِيمَا يَظْهَرُ؛ فَاعْلَمْ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِنَاشِئَةٍ عَنِ السَّبَبِ الْمَمْنُوعِ، وَإِنَّمَا يَنْشَأُ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا مَا وُضِعَ لَهُ فِي الشَّرْعِ إِنْ كَانَ مَشْرُوعًا، وَمَا مُنِعَ لِأَجْلِهِ إِنْ كَانَ مَمْنُوعًا.

وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ مَثَلًا لَمْ يَقْصِدْ بِهِ الشَّارِعُ إِتْلَافَ نَفْسٍ وَلَا مَالٍ، وَإِنَّمَا هُوَ أَمْرٌ يَتْبَعُ السَّبَبَ الْمَشْرُوعَ لِرَفْعِ الْحَقِّ وَإِخْمَادِ الْبَاطِلِ؛ كَالْجِهَادِ لَيْسَ مَقْصُودُهُ إِتْلَافَ النُّفُوسِ، بَلْ إِعْلَاءَ الْكَلِمَةِ، لَكِنْ يَتْبَعُهُ فِي الطَّرِيقِ الْإِتْلَافُ مِنْ جِهَةِ نَصْبِ الْإِنْسَانِ نَفْسَهُ فِي مَحَلٍّ يَقْتَضِي تَنَازُعَ الْفَرِيقَيْنِ، وَشَهْرَ السِّلَاحِ، وَتَنَاوُلَ الْقِتَالِ، وَالْحُدُودُ وَأَشْبَاهُهَا يَتْبَعُ الْمَصْلَحَةَ فِيهَا الْإِتْلَافُ، مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إِقَامَةُ الْمَصْلَحَةِ إِلَّا بِذَلِكَ، وَحُكْمُ الْحَاكِمِ سَبَبٌ لرفع٢ التَّشَاجُرِ، وَفَصْلِ الْخُصُومَاتِ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ؛ حَتَّى تَكُونَ الْمَصْلَحَةُ ظَاهِرَةً، وَكَوْنُ الْحَاكِمِ مُخْطِئًا رَاجِعٌ إِلَى أَسْبَابٍ أُخَرَ مِنْ تَقْصِيرٍ فِي النَّظَرِ، أَوْ كون


١ أي: من أن التكاليف لم تكن عبثا. "د".
٢ في النسخ المطبوعة: "لدفع"، وما أثبتناه من الأصل و"ط".

<<  <  ج: ص:  >  >>