للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَالْمَنْدُوبُ كَذَلِكَ مِنْ حَيْثُ مُطْلَقُ الْأَمْرِ؛ وَلِذَلِكَ لَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ فِي الْمَنْدُوبَاتِ: إِنَّهَا شُرِعَتْ لِلتَّخْفِيفِ وَالتَّسْهِيلِ، مِنْ حَيْثُ هِيَ مَأْمُورٌ بِهَا، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ ثَبَتَ أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْأَمْرِ وَالرُّخْصَةِ جَمْعٌ بَيْنَ مُتَنَافِيَيْنِ، وَذَلِكَ يُبَيِّنُ أَنَّ الرُّخْصَةَ لَا تَكُونُ مَأْمُورًا بِهَا مِنْ حَيْثُ هِيَ رُخْصَةٌ.

فَإِنْ قِيلَ: هَذَا مُعْتَرَضٌ؛ مِنْ وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا:

إِنَّ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَدِلَّةِ لَا يَدُلُّ عَلَى مَقْصُودِ الْمَسْأَلَةِ؛ إِذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ رَفْعِ الْجُنَاحِ وَالْإِثْمِ عَنِ الْفَاعِلِ لِلشَّيْءِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الشَّيْءُ مُبَاحًا، فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ وَاجِبًا أَوْ مَنْدُوبًا، أَمَّا أَوَّلًا؛ فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [الْبَقَرَةِ: ١٥٨] ، وَهُمَا مِمَّا يَجِبُ الطَّوَافُ بَيْنَهُمَا، وقال تعالى: {وَمَنْ تَأَ خَّرَ ١ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى} [الْبَقَرَةِ: ٢٠٣] ، وَالتَّأَخُّرُ مَطْلُوبٌ طَلَبَ النَّدْبِ، وَصَاحِبُهُ أَفْضَلُ عَمَلًا مِنَ الْمُتَعَجِّلِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَاضِعِ الَّتِي فِي هَذَا الْمَعْنَى.

وَلَا يُقَالُ: إِنَّ هَذِهِ الْمَوَاضِعَ نَزَلَتْ عَلَى أَسْبَابٍ حَيْثُ تَوَهَّمُوا الْجُنَاحَ، كَمَا ثَبَتَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ٢؛ لِأَنَّا نَقُولُ: مواضع الإباحة أيضا نزلت على أسباب،


١ قوله: {وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} ؛ فإنه كما جاء في "روح المعاني" رد على الجاهلية حيث كان بعضهم يؤثم المتعجل وبعضهم يؤثم المتأخر. "د".
٢ أخرج البخاري في "صحيحه" "كتاب الحج، باب وجوب الصفا والمروة وجعل من شعائر الله، ٣/ ٤٩٧-٤٩٨/ رقم ١٦٤٣" بسنده إلى عروة؛ قال: "سألت عائشة -رضي الله عنها- فقلت لها: أرأيت قول الله تَعَالَى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} ؛ فوالله ما على أحد جناح أن لا يطوف بالصفا والمروة. قالت: بئس ما قلت يابن أختي! إن هذه لو كانت كما أولتها عليه كانت "لا جناح عليه أن لا يتطوف بهما"، ولكنها أنزلت في الأنصار، كانوا قبل أن يسلموا يهلون لمناة الطاغية التي كان يعبدونها عند المشلل، فكان من أهلّ يتحرج أن يطوف بالصفا والمروة، فلما أسلموا سألوا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ ذلك؛ قالوا: يا رسول الله! إنا كنا نتحرج أن نطوف بين الصفا والمروة، فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} الآية".

<<  <  ج: ص:  >  >>