للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَانْظُرْ كَيْفَ جَعَلَ الْحَرَجَ مَا لَا مَخْرَجَ لَهُ، وَفَسَّرَ رَفْعَهُ بِشَرْعِ التَّوْبَةِ وَالْكَفَّارَاتِ، وَأَصْلُ الْحَرَجِ الضِّيقُ، فَمَا كَانَ مِنْ مُعْتَادَاتِ الْمَشَقَّاتِ فِي الْأَعْمَالِ الْمُعْتَادِ مِثْلُهَا، فَلَيْسَ بِحَرَجٍ لُغَةً وَلَا شَرْعًا، كَيْفَ وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْحَرَجِ وُضِعَ لِحِكْمَةٍ شَرْعِيَّةٍ؛ وَهِيَ التَّمْحِيصُ وَالِاخْتِبَارُ حَتَّى يَظْهَرَ فِي الشَّاهِدِ مَا عَلِمَهُ اللَّهُ فِي الغائب١، فقد تبين إذن مَا هُوَ مِنَ الْحَرَجِ مَقْصُودُ الرَّفْعِ، وَمَا لَيْسَ بِمَقْصُودِ الرَّفْعِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ.

فَصْلٌ:

قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: "إِذَا كَانَ الْحَرَجُ فِي نَازِلَةٍ عَامَّةٍ فِي النَّاسِ، فَإِنَّهُ يَسْقُطُ، وَإِذَا كَانَ خَاصًّا لَمْ يُعْتَبَرْ عِنْدَنَا، وَفِي بَعْضِ أُصُولِ الشَّافِعِيِّ اعْتِبَارُهُ"٢ انْتَهَى مَا قَالَ.

وَهُوَ مِمَّا يُنْظَرُ فِيهِ، فَإِنَّهُ إِنْ عَنَى بِالْخَاصِّ الْحَرَجَ الَّذِي فِي أَعْلَى مَرَاتِبِ الْمُعْتَادِ، فَالْحُكْمُ كَمَا قَالَ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُخْتَلَفَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ مِنَ الْمُعْتَادِ فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْمُعْتَادَ لَا إِسْقَاطَ فِيهِ، وَإِلَّا؛ لَزِمَ فِي أَصْلِ التَّكْلِيفِ، فَإِنْ تُصُوِّرَ وُقُوعُ اخْتِلَافٍ، فَإِنَّمَا هُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْحَرَجَ مِنْ قَبِيلِ الْمُعْتَادِ، أَوْ مِنْ قَبِيلِ الْخَارِجِ عَنِ الْمُعْتَادِ، لَا أَنَّهُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ مَعَ الِاتِّفَاقِ عَلَى أَنَّهُ مِنْ أَحَدِهِمَا.

وَأَيْضًا، فَتَسْمِيَتُهُ خَاصًّا يُشَاحُّ فِيهِ، فَإِنَّهُ بِكُلِّ اعْتِبَارٍ عَامٌّ غَيْرُ خاص، إذ


١هذا كالتفسير لكل آية وقع فيها تعليل التكليف بعلم الله نحو: {حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ} وصفوة المقال أن الله يعلم السرائر كما يلعم ما سيكون؛ إذ العلم يتعلق بالمعدوم وبالموجود، وإنما يضع التكاليف؛ لتنكشف سريرة العبد حيث إن الجزاء إنما يترتب على ما يقع، كما أن الأحكام إنما تجري على حسب ما يظهر للعيان، فيرجع التعليل بالعلم إلى التعليل بما يلزمه العلم، وهو التبين أو الانكشاف، ويكون المعنى؛ ليتعلق به علمنا موجودا ظاهرا. "خ".
٢ أحكام القرآن" "٣/ ١٣٠٦".

<<  <  ج: ص:  >  >>