للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مُقْتَضَى الْأَمْرِ أَوِ النَّهْيِ، فَبِالْعَرْضِ لَا بِالْأَصْلِ، وَأَمَّا سَائِرُ الْأَقْسَامِ -وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُهَا الدُّخُولَ تَحْتَ خِيَرَةِ الْمُكَلَّفِ، فَإِنَّمَا دَخَلَتْ بِإِدْخَالِ الشَّارِعِ لَهَا تَحْتَ اخْتِيَارِهِ، فَهِيَ رَاجِعَةٌ إِلَى إِخْرَاجِهَا عَنِ اخْتِيَارِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُبَاحَ قَدْ يَكُونُ لَهُ فِيهِ اخْتِيَارٌ وَغَرَضٌ، وَقَدْ لَا يَكُونُ؟ فَعَلَى تَقْدِيرِ أَنَّ لَيْسَ لَهُ فِيهِ اخْتِيَارٌ، بَلْ فِي رَفْعِهِ مَثَلًا، كَيْفَ يُقَالُ: إِنَّهُ دَاخِلٌ تَحْتَ اخْتِيَارِهِ؟ فَكَمْ مِنْ صَاحِبِ هَوًى يودُّ لَوْ كَانَ الْمُبَاحُ الْفُلَانِيُّ مَمْنُوعًا، حَتَّى إِنَّهُ لَوْ وُكِّلَ إِلَيْهِ مَثَلًا تَشْرِيعُهُ لِحَرَّمَهُ، كَمَا يَطْرَأُ لِلْمُتَنَازِعَيْنِ فِي حَقٍّ.

وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنَّ اخْتِيَارَهُ وَهَوَاهُ فِي تَحْصِيلِهِ يَوَدُّ لَوْ كَانَ مَطْلُوبَ الْحُصُولِ، حَتَّى لَوْ فُرِضَ جَعْلُ ذَلِكَ إِلَيْهِ لِأَوْجَبَهُ، ثُمَّ قَدْ يَصِيرُ الْأَمْرُ فِي ذَلِكَ الْمُبَاحِ بِعَيْنِهِ عَلَى الْعَكْسِ، فَيُحِبُّ الْآنَ مَا يَكْرَهُ غَدًا، وَبِالْعَكْسِ، فَلَا يستتبُّ فِي قَضِيَّةِ حُكْمٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ تَتَوَارَدُ الْأَغْرَاضُ عَلَى الشَّيْءِ الْوَاحِدِ، فَيَنْخَرِمُ النظام بسبب فرض اتِّباع الْأَغْرَاضِ وَالْهَوَى، فَسُبْحَانَ الَّذِي أَنْزَلَ فِي كِتَابِهِ: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} [المؤمنون: ٧١] .

فإذن، إِبَاحَةُ الْمُبَاحِ مَثَلًا لَا تُوجِبُ دُخُولَهُ بِإِطْلَاقٍ تَحْتَ اخْتِيَارِ الْمُكَلَّفِ، إِلَّا مِنْ حَيْثُ كَانَ قَضَاءً مِنَ الشَّارِعِ، وَإِذْ ذَاكَ يَكُونُ اخْتِيَارُهُ تَابِعًا لِوَضْعِ الشَّارِعِ، وَغَرَضُهُ مَأْخُوذًا مِنْ تَحْتِ الْإِذْنِ الشَّرْعِيِّ لَا بِالِاسْتِرْسَالِ الطَّبِيعِيِّ، وَهَذَا هُوَ عَيْنُ إِخْرَاجِ الْمُكَلَّفِ عَنْ دَاعِيَةِ هَوَاهُ حَتَّى يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ.

فَإِنْ قِيلَ: وَضْعُ الشَّرَائِعِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَبَثًا، أَوْ لِحِكْمَةٍ، فَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ بِاتِّفَاقٍ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا} ١ [المؤمنون: ١١٥] .


١ أي: بل لحكمة تقتضي تكليفكم وبعثكم للجزاء، فهي توبيخ للكفار على تغافلهم، وإرشاد إلى أن الشريعة وضعت لحكمة، ولو زاد كلمة "إلخ"، لكان أحسن؛ لأن ظهور الإشارة تام في قوله: {وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} . "د".

<<  <  ج: ص:  >  >>