وكان يقال: من سرّه أن يعيش مسرورا فليقتنع، ومن أراد الذكر فليجتهد، ومن أراد أن يعتبر فليغترب. وقالوا: لا ينبغي للعاقل أن يكون إلّا في إحدى منزلتين: إمّا في الغاية القصوى من الدنيا والطلب لها، أو في الغاية والنهاية من الترك لها.
وقال آخر: الدنيا مرعى فمن وجد الكلأ في موضع فليلزمه. ولأبي نواس:
أرى النّفس قد أضحت تتوق إلى مصر ... ومن دونها جوب الحزونة والوعر
وو الله ما أدري أللخفض والغنى ... أساق إليها أم أساق إلى قبري
سأرمي بنفسي عن قريب أمامها ... وأترك قول العاذلين ذوي الزّجر
لأنّ الّذي قد قدّر الله كائن ... ألا إنّما تجري الأمور على قدر
وقال آخر: السلامة إحدى العصمتين، والمرأة الصالحة إحدى الكاسبين، واللبن إحدى اللحمين، والعادة إحدى الطبيعتين، والدعاء للسائل إحدى الصدقتين، وخفّة الظهر أحد اليسارين، والغربة إحدى اللذّتين.
وأنشدني صديق لابن عبدوس الكاتب:
زعم الّذين تشرّقوا وتغرّبوا ... أنّ الغريب وإن أعزّ ذليل
فأجبتهم إنّ الغريب إذا أتّقى ... حيث استقلّ به الركاب جليل
قالوا الغريب يهان قلت تجلّدا ... إنّ الإله بنصره لكفيل
قالوا إذا مات الغريب ببلدة ... أدلي ولم يسمع عليه عويل
قلت الغريب كفاه رحمة ربّه ... وغنى البكاء عن الفقيد قليل
وله أيضا:
يقولون لي لا تغترب قلت إنّني ... إذا ما اتّقيت الله غير غريب
إذا كنت ذا عسر وحال خسيسة ... أمنت شماتات بها لقريب
وإن كنت ذا مال وحال جليلة ... فأحذر أن لا يطلبون عيوبي «١»