وكان النعمان غزا الشام مرارا وأكثر المصائب في أهلها وسباهم، وكان من أشدّ الملوك نكاية، فجلس ذات يوم في مجلسه من الخورنق فأشرف على النّجف وما يليه من البساتين والنخل والجنان والأنهار ممّا يلي المغرب، وعلى الفرات ممّا يلي المشرق، والخورنق قصر بحذاء الفرات، يدور عليه في عاقول كالخندق، فأعجبه ما رأى من الخضرة والنور والأنهار والزهر، فقال لوزيره: رأيت مثل هذا المنظر؟ قال: لا، لو كان يدوم. قال: وما الذي يدوم؟ قال: ما عند الله في الآخرة. قال: فبم ينال؟ قال: بتركك الدنيا وتعبد الله، وتلتمس ما عنده، فترك ملكه من ليلته ولبس مسوحه وخرج هاربا لا يعلم به أحد، وأصبح الناس لا يعلمون بحاله فحضروا بابه فلم يؤذن لهم ثلاثة، أيّام، فلمّا أبطأ الأذن سألوا عنه فلم يجدوه، ففي ذلك يقول عديّ بن زيد «١» :
وتبيّن ربّ الخورنق إذ أش ... رف يوما وللهدى تفكير
سرّه حاله وكثرة ما يم ... لك والبحر معرضا والسّدير
فارعوى قلبه وقال وما غب ... طة حيّ إلى الممات يصير
ثم صاروا كأنّهم ورق ج ... فّ فألوت به الصّبا والدّبور
وسمّي السّدير لأن العرب نظرت إلى سواد النخل فسدرت أعينهم أي تحيّرت فقالوا: ما هذا إلّا سدير.
وقال الكلبيّ: أوّل من بنى الخورنق بهرام جور بن يزدجرد بن سابور ذي الأكتاف، وذلك أن يزدجرد كان لا يبقى له ولد، وكان بهرام أصابه جن في صغره، فسأل عن منزل مريء صحيح من الأدواء فقالت الأطبّاء: لا يبرأ حتى تخرجه من أرضك إلى بلاد العرب، ويسقى أبوال الإبل وألبانها، فوجّهه يزدجرد إلى النعمان وأمر ببناء الخورنق مسكنا له ليعالج فيه، فعولج فبرأ، فكان بهرام يكرم العرب ويركب الإبل وهو في الصّور التي تصوّرها العجم في أوانيها وبسطها وفرشها راكب بعيرا أبدا.