للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وانطلاق الذهن، فيتخذ مونتاني من نفسه موضوعا خاصة لأدبه يعبر عن رأيه واتجاهه وشعوره وإحساسه.

وقد يقال هنا أن رسائل شيشرون١ الروماني وخطبه، وخطابات سينيكا٢ إلى لوسيليوس٣ وتعاليم بلوتارك٤ الأخلاقية، والخطب والحكم العربية التي عرفت في عصر الجاهلية يمكن اعتبارها مقالات لاتجاهاتها الذاتية، ولكن هذا الزعيم غير صحيح لأنه يهمل بعض مميزات فن المقال للأسباب الآتية:

أولا: لا يمكن مقارنة هذه المؤلفات والأعمال الأدبية في تعبيرها الذاتي بفن مونتاني، فإذا كان هؤلاء قد تحدثوا عن أنفسهم، فقد كان ذلك عرضا وعلى نحو غير مقصود، وتعوزه روح الألفة، أما المقال فهو طراز فني يقصد منه اجتذاب نظر القارئ وإثارة تشوقه بالتحدث إليه مباشرة. فهو أقرب شيء إلى المحادثة المرسلة الحرة، فالكاتب يحدث صديقه القارئ على قدم المساواة دون إملاء أو استعلاء. فالفرق بين هذه المؤلفات وفن المقال، أن شخصية الكاتب في الأولى تكاد تكون مفروضة فرضا على القارئ، في حين أن شخصية كاتب فن المقال تصبح موضوعا طريفا محبوبا جذابا. وقد كان اتجاه مونتاني المشرب بالدعابة والاستخفاف وروح الألفة وعدم التكلف، والمصادقة والإيناس هو الذي أعطى لفن المقال طابعه المميز له. فهو يتحدث دون تكلف عن والده "الذي يكن له كل احترام وتبجيل"، ويقدم لنا كبار الأدباء والعلماء متحدثا عنهم بصراحة تامة ومبديا فيهم رأيه الخاص.

وهكذا أرسى مونتاني أهم قواعد فن المقال وهي نعمة المساواة بين الكاتب والقارئ التي تنم عن روح الصداقة غير المتكلفة. ومن ناحية أخرى، يكتب عن الموضوعات من وجهة نظره هو، وكأنه يعلنها مدوية: أنا مونتاني أتحدث


١ cicero.
٢ seneca.
٣ lucilius.
٤ plutrach.

<<  <   >  >>