ولكن هذه العلاقة العابرة وحدها لا يمكن أن تنهض دليلا مقنعا على سبب ظهور فن المقال في بريطانيا. "فمن الثابت أن مقالات مونتاني قد ترجمت إلى الإنجليزية في نفس السنة التي صدرت فيها، وذلك عندما منح التصريح إلى جمعية الناشرين١ لترجمتها ونشرها ولك -بطبيعة الحال- قبل ترجمة فلوريو المشهورة سنة ١٦٠٣ بعدة سنوات.
ولكن مجرد قراءة هذه المقالات ذاتها لا يكفي لتعليل نشأة فن المقال في بريطانيا، كما أن اطلاع رفاعة الطهطاوي على الصحافة الفرنسية ومقالاتها لم يكن كافيا لنشأة فن المقال في مصر. ولعل السبب الأصيل لظهور فن المقال الفرنسي، هو نفس السبب الذي ساعد على ظهور فن المقال الإنجليزي، وكذلك نفس السبب الذي ساعد على ظهور فن المقال المصري ألا وهو ملاءمة البيئة الفكرية والثقافية والسياسية والاجتماعية لطبيعة فن المقال نفسه. والحق أنه ما من شخصية في بريطانيا مثلت عصر النهضة بخيره وشره تمثيلا صادقا مثل السير فرانسيس بيكون، صاحب الفضل في الطريقة الاستنباطية، ومحرر الفكر من قيود التقاليد، ومنقذ أسلوب الكتابة من قيود الغموض والإغراق في الزخارف اللفظية.
وقد كان بيكون عالما مغرما بروح التجريب والبحث والدراسة العلمية، وهي مميزات عصر النهضة الأوروبية، كما اهتم بأمور الدنيا متمتعا بلذاتها وأريج عطورها وجمال زهورها وبريق جواهرها. ثم إن فلسفة الانتهازية تعكس فلسفة ميكافيللي زعيم ساسة عصر النهضة في إيطاليا. وإذا كان الملك قد تغاضى عن وضاعة بيكون عندما امتدت يده إلى الرشوة، وانحطت نفسه إلى الوشاية والالتواء. فإن المؤرخين المحدثين يميلون إلى التغاضي عن ذلك أيضا. ولعله دأب الإنجليز عند المفاخرة بتراثهم.
غير أننا قلنا إن ظهور فن المقال يرجع إلى بيئة عصر النهضة المواتية والتي عبر بيكون بمقالاته عن روحها، فنحن لا ننكر كذلك أن بيكون قد تأثر