فاستقراء الأحكام الشرعية والعلل والحكم التشريعية في مختلف الأبواب والوقائع ينتج أن الشارع الإسلامي ما قصد من تشريعه الأحكام إلا حفظ ضروريات الناس وحاجياتهم وتحسينياتهم، وهذه هي مصالحهم.
وقد أفاض الإمام أبو إسحاق الشاطبي في أول الجزء الثاني من كتاب "الموافقات"، فبإثبات هذا بما لا مزيد عليه. وبعد أن أتى بأمثلة عديد من أحكام الشريعة وحكم تشريعها تدل على أن كل حكم شرعي، إنما قصد بتشريعه حفظ واحد من هذه الثلاثة التي تتكون منها مصالح الناس، قال ما نصه:"إن الظواهر، والعمومات، والمطلقات، والمقيدات، والجزئيات الخاصة في أعيان مختلفة ووقائع مختلفة في كل باب من أبواب الفقه، وكل نوع من أنواعه، يؤخذ منها أن التشريع دائر حول حفظ هذه الثلاث التي هي أسس مصالح الناس".
وقد اقتضت حكمة الشارع الإسلامي، وما أراده من حفظ هذه الأنواع الثلاثة على أتم وجه، أن شرع مع الأحكام التي تحفظ كل نوع منها أحكاما تعتبر مكملة لها في تحقيق هذه المقاصد.
ففي الضروريات لما شرع إيجاب الصلاة لحفظ الدين، شرع أداءها جماعة وإعلانها بالأذان، لتكون إقامة الدين وحفظه أتم بإطهار شعائره والاجتماع عليها.
ولما أوجب القصاص لحفظ النفوس، وشرع التماثل فيه ليؤدي إلى الغرض منه من غير أن يثير العداوة والبغضاء؛ لأن قتل القاتل بصورة أفظع مما فعل قد تؤدي إلى سفك الدماء، وإلى نقيض المقصود من القصاص.
ولما حرم الزنا لحفظ العرض حرم الخلوة بالأجنبية سدا للذريعة. ولما حرم الخمبر حفظا للعقل حرم القليل منه ولو لم يسكر. وجعل كل ما لا يتم الواجب إلا به واجبا، ولك ما يؤدي إلى المحظورات محظورا. وحذر من كثير من المباحات، وقيد كثيرا من المطقات، وخصص كثيرا من العمومات سدا للذرائع. ولما قد شرع الزواج للتوالد والتناسل، اشترط الكفاءة بين الزوجين تكميلًا للوفاق وحسن المعاشرة. فالأحكام التي شرعها لحفظ الضروريات كملها بتشريع أحكام تحقق هذا المقصد على أكمل وجوهه.
وفي الحاجيات لما شرع أنواع المعاملات من بيوع، وإيجارات وشركات ومضاربات، كملها بالنهي عن الغرر والجهالة وبيع المعدوم، وبيان ما يصح اقتران