هذا العهد ابتدأ من أول القرن الثاني الهجري، وانتهى في أواسط القرن الرابع الهجري، فهو بالتقريب ٢٥٠ سنة، وسمى عهد التدوين والأئمة المجتهدين؛ لأن حركة الكتابة والتدوين نشطت فيه، فدونت السنة، وفتاوى المفتين من الصحابة والتابعين وتابعيهم، وموسوعات في تفسير القرآن، وفقه الأئمة المجتهدين، ورسائل في علم أصول الفقه؛ ولأن مواهب عدد كبير من رجال الاجتهاد والتشريع ظهرت فيه وسرت فيهم روح تشريعية كان لها أثر خالد في التقنين، واستنباط الأحكام لما وقع وما يحتمل وقوعه.
وهذا هو العهد الذهبي للتشريع الإسلامي، فقد نما فيه ونضج وأثمر ثورة تشريعية أغنت الدولة الإسلامية بالقوانين والأحكام على سعة أرجائها واختلاف شئونها وتعدد مصالحها.
والأسباب التي أدت إلى نمو الفقه الإسلامي ونشاط حركة الاجتهاد في هذا العهد كثيرة، ولكن أهمها ما يأتي:
أولا: أن الدولة الإسلامية في هذا العهد اتسعت رقعتها وتباعدت أطرافها وشملت برعايتها كثيرا من الشعوب المختلفة الأجناس، والعادات والمعاملات والمصالح؛ لأن حدود الدولة الإسلامية امتدت شرقا إلى الصين، وغربا إلى بلاد الأندلس. وهذه البلدان وشعوبها لا بد لها من قوانين يرجع إليها قضاتها، وولاتها وفتاوى يرجع إليها أفرادها، ولا مصدر لهذا التقنين والإفتاء إلا مصادر الشريعة. لهذا بذل العلماء جهودهم في الرجوع إلى هذه المصادر، واستمدوا من نصوص الشريعة وروحها، وما أقامه الشارع من دلائلها، أحكام ما طرأ للدولة من مصالح وحاجات، بل زاد نشاطهم فشرعوا أحكاما لحوادث فرضية، وبهذا النشاط لم يضق التشريع الإسلامي بحاجة، ولم يقصر عن مصلحة، والنشاط السياسي يبث روح النشاط في كل شئون الدولة.
وثانيًا: أن الذين تصدوا للتقنين والإفتاء في ذلك العهد وجدوا طرق التشريع ممهدة وصعابه ميسرة؛ لأنهم وجدوا المصادر التشريعية في متناولهم ووجدوا كثيرا