بعد وفاة الرسول -صلى الله عليه وسلم- تصدى لإفتاء المسلمين والتشريع لهم جماعة من الصحابة، عرفوا بالفقه والعلم وطول ملازمة الرسول وفهم القرآن وأحكامه، وقد صدرت عنهم عدة فتاوى في وقائع مختلفة، وعني بعض الرواة من التابعين وتابعي التابعين بروايتها وتدوينها، حتى إن منهم من كان يدونها مع سنن الرسول، فهل هذه الفتاوى من المصادر التشريعية الملحقة بالنصوص بحيث إن المجتهد يجب عليه أن يرجع إليها قبل أن يلجأ إلى القياس؟ أو هي مجرد آراء إفرادية اجتهادية ليست حجة على المسلمين؟.
وخلاصة القول في هذا الموضوع أنه: لا خلاف في أن قول الصحابي فيما لا يدرك بالرأي والعقل يكون حجة على المسلمين؛ لأنه لا بد أن يكون قاله عن سماع من الرسول، كقول عائشة رضي الله عنها: لا يمكث الحمل في بطن أمه أكثر من سنتين قدر ما يتحول ظل المغزل. فمثل هذا ليس مجالا للاجتهاد والرأي، فإذا صح فمصدره السماع من الرسول، وهو من السنة، وإن كان في ظاهر الأمر من قول الصحابي.
ولا خلاف أيضا في أن قول الصحابي، الذي لم يعرف له مخالف من الصحابة يكون حجة على المسلمين؛ لأن اتفاقهم على حكم في واقعة مع قرب عهدهم بالرسول، وعلمهم بأسرار التشريع واختلافهم في وقائع كثيرة غيرها دليل على استنادهم إلى دليل قاطع، وهذا لما اتفقوا على توريث الجدات السدس كان حكما واجبا اتباعه، ولم يعرف فيه خلاف بين المسلمين.
وإنما الخلاف في قول الصحابي الصادر عن رأيه واجتهاده، ولم تتفق عليه كلمة الصحابة. فقال أبو حنيفة ومن وافقوه: إذا لم أجد في كتاب الله ولا سنة رسوله، أخذت بقول أصحابه من شئت وأدع قول من شئت، ثم لا أخرج عن قولهم إلى غيره. فالإمام أبو حنيفة لا يرى رأي واحد معين منهم حجة، فله أن يأخذ برأي من شاء منهم، ولكنه لا يسوغ مخالفة آرائهم جميعا. فهو لا يسوغ القياس في الواقعة ما دام للصحابة فيها فتوى، بل يأخذ فيها بأي قول من