هذا هو العهد الذي فترت فيه همم العلماء عن الاجتهاد المطلق، وعن الرجوع إلى المصادر التشريعية الأساسية لاستمداد الأحكام من نصوص القرآن، والسنة واستنباط الأحكام فيما لا نص فيه بأي دليل من الأدلة الشرعية، والتزموا اتباع ما استمدوه من الأئمة المجتهدين السابقين من الأحكام.
ابتدأ هذا العهد من منتصف القرن الرابع الهجري بالتقريب حين طرأت على المسلمين عدة عوامل: سياسية، وعقلية، وخلقية، واجتماعية أثرت في كل مظهر من مظاهر نهوضهم وأحالت نشاطهم التشريعي إلى فتور.
ووقفت حركة الاجتهاد والتقنين، وماتت في العلماء روح الاستقلال الفكري، فلم يردوا المعين الذي لا ينضب ماؤه وهو القرآن والسنة، بل راضوا أنفسهم على التقليد، ورضوا أن يكونوا عالة على فقه الأئمة السابقين: أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد، وأقرانهم، وحصروا عقولهم في دوائر محدودة من فروع مذاهب هؤلاء الأئمة وأصولها. وحرموا على أنفسهم أن يخرجوا عن حدودها، وبذلوا جهودهم في ألفاظ أئمتهم، وعباراتهم لا في نصوص الشارع ومبادئه العامة، وبلغ من ركونهم إلى أقوال أئمتهم أن قال أبو الحسن الكرخي من العلماء الحنفية: كل آية أو حديث يخالف ما عليه أصحابنا فهو مؤول أو منسوخ. وبهذا وقف التشريع عند ما وصل إليه أئمة العهد السابق، وقصر عن مسايرة ما يجد من التطورات، والمعاملات، والأقضية، والوقائع.
أسباب وقوف حركة الاجتهاد:
وأهم العوامل التي أدت إلى هذا الوقوف والتزام تقليد السابقين أربعة:
أولًا: انقسام الدولة الإسلامية إلى عدة ممالك يتناحر ملوكها وولاتها وأفرادها، فهذا الانقسام شغل ولاة الأمور بالحروب والفتن، واتقاء المكايد، وتدبير وسائل القهر والغلبة، وشغل الناس معهم، فدب الانحلال العام وفترت الهمم في العلوم والفنون، وكان لهذا الانحلال أثره في وقوف حركة التشريع.
وثانيًا: أنه لما انقسم الأئمة المجتهدون في العهد الثالث إلى أحزاب، وصار لكل حزب مدرسة تشريعية لها تزعتها وخطتها، عني تلاميذ كل مدرسة أو أعضاء