كل حزب بالانتصار لمذهبهم، وتأييد أصوله وفروعه بكل الوسائل. فتارة كان التأييد بإقامة البراهين على صحة ما ذهبوا إليه وبطلان ما خالفه، وتارة كان التأييد بالإشادة بزعمائهم ورءوسهم، وعد آيات نبوغهم ومقدرتهم. وهذا وذاك شغل علماء المذاهب وصرفهم عن الأساس التشريعي الأول وهو القرآن والسنة. وصار الواحد منهم لا يرجع إلى نص قرآني أو حديث إلا ليلتمس فيه ما يؤيد مذهب إمامه، ولو بضرب من التعسف في الفهم أو التأويل، وبهذا فنيت شخصية العالم في ضربيته وماتت روح استقلالهم العقلي، وصار الخاصة كالعامة أتباعا مقلدين.
وثالثا: أنه لما أهمل المسلمون تنظيم السلطة التشريعية، ولم يضعوا نظاما كفيلا بألا يجترئ على الاجتهاد إلا من هو أهل له، دبت الفوضى في التشريع والاجتهاد وادعى الاجتهاد من ليس أهلا له وتصدى لإفتاء المسلمين جهال عبثوا بنصوص الشريعة، وبحقوق الناس ومصالحهم، وبهذا تعددت الفتاوى وتباينت، وتبع هذا تعدد الأحكام في الأقضية؛ حتى كان القضاء يختلف في الحادث الواحد، في البلد الواحد فتستحل دماء وأموال في ناحية من نواحي المدينة، وتستباح من ناحية أخرى منها، وكل ذلك نافذ من المسلمين وكله يعتبر من أحكام الشريعة، فلما فزع من هؤلاء العلماء حكموا في أواخر القرن الرابع بسد باب الاجتهاد، وتقييد المفتين والقضاة بأحكام الأئمة السابقين، فعالجوا الفوضى بالجمود.
ورابعًا: أن العلماء فشت فيهم أمراض خلقية، حالت بينهم وبين السمو إلى مرتبة الاجتهاد، فقد فشا بينهم التحاسد والأنانية، فكانوا إذا طرق أحدهم باب الاجتهاد، فتح على نفسه أبوابًا من التشهير به، وحط أقرانه من قدره، وإذا أفتى في واقعة برأيه، قصدوا إلى تسفيه رأيه تفنيد ما أفتى به بالحق والباطل، فلهذا كان العالم يتقي كيد زملائه وتجريحهم بأنه مقلد وناقل، لا مجتهد ومبتكر، وبهذا ماتت روح النبوغ ولم ترفع في الفقه رءوس وضعفت ثقة العلماء بأنفسهم وثقه الناس بهم، فولوا وجههم مذاهب الأئمة السابقين.
جهود العلماء التشريعية في هذا العهد:
ولكن هذه العوامل التي قعدت بالعلماء عن الاجتهاد المطلق؛ واستمداد الأحكام الشرعية من مصادرها الأولى، لم تقعدهم عن بذل جهود تشريعية في دوائرهم المحدودة. ولهذا قسم العلماء كل مذهب إلى طبقات.