إذا قص القرآن أو السنة الصحيحة حكما من الأحكام الشرعية، التي شرعها الله لمن سبقنا من الأمم، على ألسنة رسلهم ونص على أنها مكتوبة علينا، كما كانت مكتوبة عليهم، فلا خلاف في أنها شرع لنا وقانون واجب اتباعه بتقرير شرعنا لها، كقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} .
وإذا قص القرآن الكريم أو السنة الصحيحة حكما من هذه الأحكام، وقام الدليل الشرعي على نسخه ورفعه عنا، فلا خلاف في أنه ليس شرعا لنا بالدليل الناسخ من شرعنا، مثل ما كان في شريعة موسى من أن العاصي لا يكفر ذنبه إلا أن يقتل نفسه، ومن أن الثوب إذا أصابته نجاسة لا يطهره إلا قطع ما أصيب منه، وغير ذلك من الاحكام التي كانت إصرا حمله الذين من قبلنا ورفعه الله عنا.
وموضع الخلاف هو ما قصه علينا الله أو رسوله من أحكام الشرائع السابقة، ولم يرد في شرعنا ما يدل على أنه مكتوب علينا كما كتب عليهم، أو أنه مرفوع عنا ومنسوخ كقوله تعالى:{مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} وقوله: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} .
فقال جمهور الحنفية وبعض المالكية والشافعية: أنه يكون شرعا لنا وعلينا اتباعه وتطبيقه، ما دام قد قص علينا ولم يرد في شرعنا ما ينسخه؛ لأنه من الأحكام الإلهية التي شرعها الله على ألسنة رسله، وقصه علينا ولم يدل الدليل على نسخها، فيجب على المكلفين اتباعها، ولهذا استدل الحنفية على قتل المسلم بالذمي، وقتل الرجل بالمرأة بإطلاق قوله تعالى:{النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} .
وقال بعض العلماء: إنه لا يكون شرعا لنا؛ لأن شريعتنا ناسخة للشرائع السابقة، إلا إذا ورد في شرعنا ما يقرره، والحق هو المذهب الأول؛ لأن شريعتنا إنما نسخت من الشرائع السابقة ما يخالفها فقط؛ ولأن قص القرآن علينا حكما شرعيا سابقا بدون نص على نسخه هو تشريع لنا ضمنا؛ لأنه حكم إلهي بلغة الرسول إلينا ولم يدل على رفعه عنا؛ ولأن القرآن مصدق لما بين يديه من التوراة والإنجيل فما لم ينسخ حكما في أحدهما فهو مقرر له.