من الوقائع والمشاكل قد عالجها سلفهم من قبلهم، فالقرآن مدون ومنشور بين لخاصة المسلمين وعامتهم، والسنة مدون أكثرها من بدء القرن الثاني الهجري، وكذلك فتاوى الصحابة والتابعين، فاليسر الذي وجده مجتهدو ذلك العهد في رجوعهم إلى القرآن والسنة والنور الذي لمحوه من فتاوى سلفهم من الصحابة، وتابعيهم ومن آثارهم في تفسير النصوص كانا من عوامل نشاطهم، ووفرة إنتاجهم والخلف يستثمر عقله وعقل سلفه.
وثالثًا: أن المسلمين في ذلك العهد كانوا شديدي الحرص على أن تكون جميع أعمالهم من عبارات ومعاملات، وعقود وتصرفات على وفق أحكام الشريعة الإسلامية، فلهذا كانوا في كلياتهم وجزئياتهم يرجعون إلى المفتين ورجال التشريع، فكان المجتهدون في ذلك العهد موردا لا ينقطع وارده من أفراد وولاة وقضاة. ومن هذا اتصلت جهودهم ونما إنتاجهم.
ورابعا: أن ذلك العهد نشأت فيه أعلام لهم مواهبهم واستعداداتهم، وساعدتهم البيئة التي عاشوا فيها على استثمار هذه المواهب والاستعدادات.
فتكونت الملكة التشريعية لكثير من أفذاذهم أمثال: أبي حنيفة وأصحابه، ومالك وأصحابه، والشافعي وأصحابه، وأحمد وأصحابه، وغيرهم من معاصريهم من الأئمة والمجتهدين، واقتدوا بهذه الملكات على تنمية الفقه الإسلامي وسد الحاجة التشريعية للدولة. فالبيئة الإسلامية في ذلك العهد أنضجت عقول ذوي المذاهب من رجالها؛ لأن العقول الراجحة كالبذر الصالح إذا وجد التربة الطيبة والجو الملائم آتى ثمراته، ولا خير في صلاح البذر إذا خبثت التربة وفسد الجو، كما أنه لا خير في طيب التربة، وحسن الجو إذا فسد البذر.
من تولى سلطة التشريع في هذا العهد:
في أواخر القرن الأول لازم الصحابة الذين تصدوا للإفتاء والتشريع في مختلف الأمصار جماعة من التابعين أخذوا عنهم القرآن، ورووا عنه السنة: وحفظوا فتاويهم؛ وفهموا منهم أسرار التشريع وطرق الاستمداد للأحكام، وهؤلاء التابعون منهم من كان يستفتي، ويفتي في حياة الصحابة أنفسهم مثل: سعيد بن المسيب بالمدينة، وعلقمة بن قيس. وسعيد بن جبير بالكوفة، حتى روي أن عبد الله بن عباس كان إذا حج أهل الكوفة واستفتوه قال لهم: أليس فيكم سعيد بن