فإذا أداه اجتهاده في سند الدليل إلى الاطمئنان لروايته، وصدق رواته، اجتهد في معرفة ما يدل عليه الدليل من الأحكام، وما يطبق فيه من الوقائع؛ لأن الدليل قد يدل ظاهره على معنى، ولكنه ليس هو المراد، وقد يكون عاما، وقد يكون مطلقا، وقد يكون على صيغة الأمر أو النهي، فالمجتهد يصل باجتهاده إلى معرفة أن الظاهر على ظاهره أو هو مؤول، وأن العام باق على عمومه أو هو مخصص، وكذلك المطلق على إطلاقه أو هو مقيد، والأمر للإيجاب أو لغيره، والنهي للتحريم أو لغيره، وهاديه في اجتهاده القواعد الأصولية اللغوية، ومقاصد الشارع ومبادئه العامة، وسائر نصوصه التي بينت أحكاما، وبهذا يصل إلى أن النص يطبق في هذه الواقعة أو لا يطبق.
وكذلك إذا كانت الواقعة لا نص على حكمها أصلا، ففيها مجال متسع للاجتهاد؛ لأن المجتهد يبحث ليصل إلى معرفة حكمها بواسطة القياس، أو الاستحسان أو الاستصحاب أو مراعاة العرف أو المصالح المرسلة. فالخلاصة أن مجال الاجتهاد أمران: ما لا نص فيه أصلا؛ وما فيه نص غير قطعي، ولا مجال للاجتهاد فيما فيه نص قطعي.
وعلى هذا أصول التقنين الوضعي، فقد جاء في كتاب أصول القوانين: الأصل أنه ما دام القانون صريحًا فلا يجوز تأويله وتغيير نصوصه، بناء على أن روح القانون تدعو لذلك التغيير، حتى لو كان رأي القاضي الشخصي أن النص غير عادل؛ لأن مرجع ذلك أن المشرع نفسه، ومأمورية القاضي قاصرة على الحكم بمقتضى القانون لا الحكم على القانون.
وجاء في المادة ٢٩ من لائحة ترتيب المحاكم الأهلية أنه:"إن لم يوجد نص صريح بالقانون يحكم بمقتضى قواعد العدل"، فما دام في القانون نص صريح، فهو وحده الذي يقضى به.
الأهلية للاجتهاد:
بعد أن بينا ما فيه مجال للاجتهاد، وما ليس فيه مجال نبين من يكون أهلا للاجتهاد.
يشترط لتحقيق الأهلية للاجتهاد شروط أربعة:
الأول: أن يكون الإنسان على علم باللغة العربية، وطرق دلالة عباراتها ومفرداتها، وله ذوق في فهم أساليب ونسبه من الحذق في علومها وفنونها، وسعة