للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ولهذا قال العلماء: العادة شريعة محكمة، والعرف في الشرع له اعتبار، والإمام مالك بنى كثيرا من أحكامه على عمل أهل المدينة، وأبو حنيفة وأصحابه اختلفوا في أحكام بناء على اختلاف أعرافهم، والشافعي لما هبط إلى مصر غير بعض الأحكام التي كان قد ذهب إليها وهو في بغداد، لتغير العرف، ولهذا له مذهبان قديم وجديد، وفي فقه الحنفية أحكام كثيرة مبنية على العرف، منها إذا اختلف المتداعيان ولا بينة لأحدهما فالقول لمن يشهد له العرف، وإذا لم يتفق الزوجان على المقدم والمؤخر من المهر فالحكم هو العرف، ومن حلف لا يأكل لحما فأكل سمكا لا يحنث بناء على العرف، والمنقول يصح وقفه إذا جرى به العرف. والشرط في العقد يكون صحيحا إذا ورد به الشرع أو اقتضاه العقد أو جرى به العرف، وقد ألف العلامة المرحوم ابن عابدين رسالة سماها: "نشر العرف فيما بني من الأحكام على العرف" ومن العبارات المشهورة: "المعروف عرفا كالمشروط شرطا، والثابت بالعرف كالثابت بالنص".

وأما العرف الفاسد فلا تجب مراعاته؛ لأن في مراعاته معارضة دليل شرعي أو إبطال حكم شرعي فإذا تعارف الناس عقدا من العقود الفاسدة كقعد ربوي أو عقد فيه غرر وخطر، فلا يكون لهذا العرف أثر في إباحة هذا العقد، ولهذا لا يعتبر في القوانين الوضعية عرف يخالف الدستور أو النظام العام، وإنما ينظر في مثل هذا العقد من جهة أخرى، وهي أن هذا العقد هل يعد من ضرورات الناس أو حاجياتهم، بحيث إذا أبطل يختل نظام حياتهم أو ينالهم حرج أو ضيق أو لا؟ فإن كان من ضرورياتهم أو حاجياتهم يباح؛ لأن الضرورات تبيح المحظورات، والحاجات تنزل منزلتها في هذا، وإن لم يكن من ضرورياتهم ولا من حاجياتهم يحكم ببطلانه، ولا عبرة لجريان العرف به.

والأحكام المبنية على العرف تتغير بتغيره زمانا ومكانا؛ لأن الفرع يتغير بتغير أصله، ولهذا يقول الفقهاء، في مثل هذا الاختلاف: إنه اختلاف عصر وزمان، لا اختلاف حجة وبرهان.

والعرف عند التحقيق ليس دليلا شرعيا مستقلا، وهو في الغالب من مراعاة المصلحة المرسلة، وهو كما يراعى في تشريع الأحكام يراعى في تفسير النصوص، فيخصص به العام، ويقيد به المطلق. وقد يترك القياس بالعرف ولهذا صح عقد الاستصناع، لجريان العرف به، وإن كان قياسا لا يصح؛ لأنه عقد على معدوم.

<<  <   >  >>