وأما الذين يسكنون في الوسط فيما بين مدار بنات نعش ومدار رأس السرطان، فإن الشمس لما كانت لا تصل إلى موضع سمت رؤوسهم - ولم يكن بعدها عنهم في أوقات انتصاف النهار بعداً كثيراً، فكان مزاج هوائهم معتدلاً فكان قد يختلف إلا أنه لا يعرض له تغير كثير من الحر إلى البرد ومن البرد إلى الحر - صارت ألوان هؤلاء متوسطة ومقادير أبدانهم معتدلة وطبائعهم حسنة المزاج ومساكنهم متصلة وأخلاقهم أنيسة. ومن كان من هؤلاء يميل إلى ناحية الجنوب فهو في أكثر الأمر أذكى وأحيل وأقوى على العلم بأمور الآلهة لقرب فلك البروج والكواكب المتحيرة من موضع سمت رؤوسهم، وحركات أنفسهم تليق بحركات الكواكب في سرعة وقوفها على الشيء، وإنها ذوات فحص ونظر في العلوم التي تسمى التعليمية - أي علم النجوم والحساب - كأنه يريد أداني بابل فبلد فارس فذاهبا إلى المغرب على أرض مصر وجزيرة يونان - ومن كان منهم بالجملة مائلاً إلى ناحية المشرق فهم أكثر تذكراً وأقوى انفساً ويظهرون جميع أمورهم، لأن ناحية المشرق من طباع الشمس وهي ناحية نهارية مذكرة ومتيامنة، كما يرى في الحيوان أن الأعضاء المتيامنة منه أقوى وأعون على الشدة والجلد ويكون دواب هذه الناحية أقوى وأعمل وأصبر من غيرها. وأما الذين يميلون إلى ناحية المغرب فهم أكثر تأنيثاً وأنفسهم ألين ويخفون أمورهم في أكثر الأمر ويسترونها، لأن هذه الناحية قمرية ومن شأن القمر أبداً أن يكون أول طلوعه وظهوره بعد الاجتماع من ناحية مهب الرياح الغربية المسماة بالدبور، ولذلك يظن بهذه الناحية أنها ليلية مؤنثة متياسرة ضد الناحية الشرقية، وكل واحدة من هذه النواحي الكلية يلزم أن يكون فيها أحوال جزئية من أحوال الأخلاق والسنن الطبيعية، كما أن أحوال الهواء المحيط تختلف في المواضع التي ذكرناها حارة على أكثر الأمر أو باردة أو معتدلة على أكثر الأمر، وتخص مواضع وبلداناً منها بالزيادة والنقصان إما لمرتبة الموضع في الوضع وإما لارتفاعه وانخفاضه وإما لمجاورته ما يجاوره. وكما أن بعض الناس أيضاً فلاحون خاصة لسهولة أرضهم، وغيرهم نواتي وملاحون لقرب البحر منهم، وآخرون أهل خفض ودعة وأنس ويسار لخصب بلادهم وكثرة خيرها، وكذلك يجد