هذا كلام الحكيم في هذه المرتبة التي وعدناك الكلام فيها وهو يقول بعد ذلك ليس في معرفة الفضائل كفاية بل الكفاية في العمل بها. ومن الناس من ينصاع إلى الفضائل وينقاد إلى الموعظة ويرغب في الخيرات وهؤلاء قليلون وهم الذين يمتنعون من جميع الردآت والشرور. وذلك للغريزة الجيدة والطبع الجيد الفائق. ومنهم من ينقاد إلى الخيرات حتى يمتنع من الردآت والشرور بالوعيد والفزع والإنذارات من العذاب فيهرب من الجحيم والهاوية وما أعد فيها من الآلام. ولذلك حكمنا أن بعض الناس أخيار بالطبع وبعضهم أخيار بالشرع وبالتعلم.
فالشريعة تجري لهؤلاء جرى الماء للإنسان الذي به يسيغ غصه. ومن لا ينقاد لها فهو كالشرق بالماء فلا يشرب الماء ولا يجده يسيغ غصته وهو الهالك الذي لا حيلة فيهولا طمع في إصلاحه وبرئه. ولهذه العلة قلنا: إن من كان بالطبع خيرا فاضلا فذلك لمحبة الله إياه وليس أمره إلينا ولا نحن كنا سببه بل الله عز وجل. ومثل هذا هو الذي يقول فيه ارسطوطاليس أن عناية الله به أكبر. فتحصل مما قدمناه أن أنصاف السعداء من الناس أربعة وهم موجودون بالتصفح والحس. وذلك أنا نجد من الناس من هو خير فاضل من مبدأ تكوينه نرى فيه النجابة طفلا ونتفرس فيه الفلاحة ناشئا بأن يكون حيا كريم الخيم يؤثر مجالسة الأخيار ومؤانسة الفضلا وينفر من اضدادهم وليس يكون بذلك غلا بعناية تلحقه من أول مولده كما قلناه.