إن هذا الشوق ربما ساق الإنسان علىمنهج قويم وقصد صحيح حتى ينتهي إلى غاية كماله وهي سعادته التامة. وقلما يتفق ذلك وربما اعوج به عن السمت والسنن وذلك لأسباب كثيرة يطول ذكرها ولا حاجة بك إلى علمها الآن وأنت في تهذيب خلقك. فكما أن الطبيعة المدبرة للأجسام ربما شوقت إلى ما ليس بتمام للجسم الطبيعي لعلل تحدث به وآفات تطرأ عليه بمنزلة من يشتاق إلى أكل الطين وما جرى مجراه مما لا يكمل طبيعة الجسد بل يهدمه ويفسده. كذلك أيضا النفس الناطقة ربما اشتاقت إلى النظر والتمييز الذي لا يكملها ولا يشوقها نحو سعادتها بل يحركها إلى الأشياء التي تعوقها وتقصر بها عن كمالها فيحينئذ يحتاج إلى علاج نفساني روحاني كما احتاج في الحالة الأولى إلى طب طبيعي جسماني. ولذلك تكثر حاجات الناس إلى المقومين والمنفعين وإلى المؤدبين والمسددين. فإن وجود تلك الطبائع الفائقة التي تنساق بذاتها منغير توفق إلى السعادة عسرة الوجود ولا توجد إلا في الأزمنة الطوال والمدد البعيدة. وهذا الأدب الحق الذي يؤدينا إلى غايتنا يجب أن تلحظ فيه المبأ الذي يجري مجرى الغاية حتى إذا لحظت الغاية تدرج منها إلى الأمور الطبيعية على طريق التحليل ثم يبتدىء من أسفل على طريق التركيب فيسلك فيها إلى أن ينتهي إلى الغاية التي لحظت أولا. وهذا المعنى هو الذي أحوجنا في مبدأ هذا الكتاب وفي فصول أخر منه أن نذكر أشياء عالية لا تليق بهذه الصناعة ليتشوق إليها من يستحقها.