فإذا زالت آثارها وعادوا إلى حال السلامة منها التذوا بذلك ووجدوا للراحة لذة. ولا يشعرون أنهم إذا اشتاقوا إلى لذة المآكل فقد اشتاقوا أولا إلى ألم الجوع. وذلك أنهم إن لم يؤلموا بالجوع لم يلتذوا بالأكل. وهكذا الحال في سائر اللذات الأخر. إلا أن هذا الحال في بعضها أظهر منها في بعض. وسنتكلم على أن صورة الجميع واحدة وأن اللذات كلها إنما تحصل للملتذ بعد آلام تلحقه. لأن اللذة هي راحة من ألم وأن كل لذة حسية إنما هي خلاص من ألم أو أذى في غير هذا الموضع.
وسيظهر عند ذلك أن من رضي لنفسه بتحصيل اللذات البدنية وجعلها غايته وأقصى سعادته فقد رضى بأخس العبودية لأخص الموالي. لأنه يصير نفسه الكريمة التي يناسب بها الملائكة عبدا للنفس الدنيئة التي يناسب بها الخنازير والخنافس والديدان وخسائس الحيوانات التي تشاركه في هذا الحال.
وقد تعجب جالينوس في كتابه الذي سماه بأخلاق النفس من هذا الرأي وكثر استجهاله للقوم الذين هذه مرتبتهم من العقل. إلا أنه قال أن هؤلاء الخبثاء الذين سيرتهم أسوأ السير وإرداؤها إذا وجدوا إنسانا هذا رأيه ومذهبه نصروه ونوهوا به ودعوا إليه ليوهموا بذلك أنهم غير منفردين بهذه الطريقة لأنهم يظنون أنهم متى وصف أهل الفضل والنبل من الناس بمثل ما هم عليه كان ذلك عذرا لهم وتمويها على قوم آخرين في مثل طريقتهم. وهؤلاء هم الذين يفسدون الأحداث بإيهامهم أن الفضيلة هي ما تدعوهم إليه طبيعة البدن من الملاذ.