وزعم "كونت" أن العقل البشري في هذه الحالة صرَف عن تصوُّره العِلَلَ المتعدِّدة وكذلك العلّة الواحدة، إذا كانت مفارقة للطبيعة، وجَعَل بدلَ ذلك عِللاً ذاتيَّة توهَّمها موجودةً في باطن الأشياء الطبيعية، من وراء المنظور منها.
وهذه العِلل ليست أكثر من معانٍ مجرَّدةٍ جَسَّمها له الخيال، فقال العقل: "العِلّة الفاعلة - القوة الفاعلة - الجوهر - الماهية - النفس - الحرية - الغاية" ونحو ذلك. واندفع العقل بمقتضى هذا التصوّر إلى أن يعتقد بوجود قُوى متعدّدة في بواطن الأشياء، من وراء المشهود منها، بعدد أقسام الظواهر الطبيعيّة وطوائفها، مثل: " القوة الكيميائية - القوة الحيوية " ونحو ذلك.
ثمّ انتقل العقل من تعدّدية هذه القوى إلى توحيدها، في قوّة كليّة أوليَّة واحدة، هي "الطبيعة".
وزعم "كونت" أن هذه "الحالة الميتافيزيقيّة" قد بلغت أوجَها في مذهب "وحدة الوجود" الذي يجمع في "الطبيعة" جميع قوى الميتافيزيقية.
ورأى أن الفرق بين الحالة الثانية هذه وبين الحالة الأولى، هو أنّ المجرّد في الحالة الثانية يحلُّ محلّ المشخّص في الحالة الأولى، وأَنّ الاستدلال الفكري في الحالة الثانية، يحلُّ محلَّ الخيال في الحالة الأولى.
ورأى أن العقل في الحالة الثانية يضعُ "معاني" أو "قُوى" موضع الإرادات المتقلبات، فَيُضْعِف من سلطان القوى المفارقة للأشياء الطبيعية.
ورأى "أوجست كونت" أن الحياة الإنسانية بهذه الحالة الثانية قد تعرضت للانحلال، بانتشار الشك والأنانية، وبلجوء الفرد إلى أن يُقَطّع الروابط التي تربِطُهُ بالمجتمع الإنساني، وإلى أن يُثَقِّف عقله على حساب عاطفته، وأن يتصور الاجتماع البشريّ ناشئاً من التعاقد الاجتماعي الذي يكون بين الأفراد، وأن تقوم الدولة على مبدأ سلطة الشعب، وأن يحكمها القانون.
لقد كان كلّ ذلك باستبعاد فكرة الإله العليم المريد المدبّر القدير المتصرف بالظواهر الكونيّة.
وقد ظهر لكونت أن هذه الحالة لا تصلح للمجتمع البشري، بل هي مفسدة له.
* * *
الحالة الثالثة: التي مرّ بها العقل البشري في تَطَوُّره، هي ما أسماه "كونت": "الحالة الواقعية".
وقد رأى "كونت" أن العقل في هذه الحالة يُدْرِك أن الحصول على معارف مطلقة أمرٌ متعذر غير ممكن، لذلك فهو يقتصر على الاهتمام بأن يَتَعرَّف على الظواهر الكونيّة، ويَبْحَث ليكتشف قوانين هذه الظواهر، ويُرَتِّبَها من الخاص إلى العام.
ورأى أنه في هذه الحالة تَحُلُّ الملاحظة للظواهر الكونية محلّ الخيال