وفى عشية ذلك اليوم، أعني عشية ليلة عيد النحر، ابتدأت بتحرير الحجج
المفحمة لليهود، وألفتها في كتاب قيام السموأل بتأليف إفحام اليهود ثم غاية
القصود وسميته "بإفحام اليهود". واشتهر ذلك الكتاب، وطار خبره وانتسخ فى عدة بقاع نسخًا كثيرة - بالموصل وأعمالها، وديار بكر العراق وبلاد العجم، ثم أضفت إليه بعد وقت فصولاً كثيرة من الاحتجاج على اليهود من التوراة، حتى صار كتابًا بديعًا، لم يعمل في الإسلام مثله في مناظرة اليهود ألبتة.
وأما المنام الأول والثانى، فإنى لم أذكرهما للصاحب، ولا لغيره من أهل مراغة
إلى انقضاء أربع سنين منذ أوان رؤيتهما، وكان ذلك منى لسببين، أحدهما أنى كرهت أن أذكر أمرًا لا يقوم عليه البرهان، وبما يسوغ خاطر من يسمعه إلى تكذيبه، لأنه أمر نادر قليل ما يتفق إذ كان العاقل يكره أن يعرض كلامه - للتكذيب سرًا وعلانية.
والثانى: إنى كرهت أن يصل خبر المنامين إلى من يحسدنى في البلاد، على ما
فضلنى الله به من العلم والحرمة، فيجعل ذلك طريقًا على التشنيع علىّ والإزراء على مذهبى، فيقول: إن فلان ترك دينه لمنام رآه، وانخدع لأضغاث أحلام!
فأخفيت ذلك إلى أن اشتهر كتاب "إفحام اليهود" وكثرت نسخه، وقرأه علىَّ جماعة كثيرة من الناس، أعني أن الانتقال عن مذهب اليهود إنما كان بدليل وبرهان وحجج قطعية عرفتها، وإن كنت أخفى ذلك ولا أبوح به مدة، مراقبة لأبى، وبرأيه حينئذ أظهرت قصة المنامين، وأوضحت أنهما كانا موعظة من الله تعالى، وتنبيهاً على ما يجب علىَّ تقديمه، ولا يحل لي تأخيره بسبب والدى وغيره.
وكتبت كتابًا إلى أبى إلى حلب، وأنا يومئذ بحصن كيفا، وأوضحت له في ذلك الكتاب عدة حجج وبراهين، مما أعلم أنه لا ينكره ولا يقدر على إبطاله، وأخبرته أيضا بخبر المنامين، فانحدر إلى الموصل ليلقاني، وفاجأه مرض حاد بالموصل، فهلك فيه.