للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

قال المُظهِرُ: وحينئذٍ فلا يجوز تحقير المتَّقي من الشرك والمعاصي، لما ذكر من أنَّ التقوى محلُّها القلب، وما كان محلُّه القلب يكُون مَخْفِيًّا عن أعيُنِ الناس، وإذا كان مَخْفِيًّا لا يجوز لأحدٍ أن يحكُمَ بعدم تقوى مسلمٍ حتى يحتقره، ويحتمل أنَّ معناه محلُّ التقوى هو القلب، فمن كان في قلبه التقوى فلا يحقر مسلمًا؛ لأنَّ المتَّقيَ لا يحقِرُ المسلمَ (١).

قال الطيبيُّ: والثاني أوجَه، والنَّظم له أدعى؛ لأن المصطفى -صلى الله عليه وسلم- إنَّما شبَّه المسلم بالأخ لينبِّه على المساواة، وأن لا يرى أحدٌ لنفسه على أحدٍ من المسلمين فضلًا ومزيَّةً، ويحبَّ له ما يحبُّ لنفسه، وتحقيرُهُ إيَّاه يأبَى ذلك، وينشأ منه قطع وِصلة (٢) الأُخُوَّة التي أمر الله تعالى بها أن توصل. [١٣٤/أ]

ومراعاة هذه الشريطة أمرٌ صعبٌ؛ لأنَّه ينبغي أن يسوِّيَ بين السُّلطان /وأدنى العوامّ، و [بين] (٣) الغنيِّ والفقيرِ، والقويِّ والضعيفِ، والقريبِ والبعيدِ، والكبيرِ والصَّغيرِ، ولا يتمكَّن في ذلك إلَّا من امتحن الله قلبه للتقوى، وأخلصَهُ (٤) من الأمراض القلبيَّة من نحو غِشٍّ وحقدٍ خلاصَ الذهب الإبريز من خَبَثه، فيؤثِر لذلك أمرَ الله تعالى على متابعة الهوى (٥)؛ فلذلك جاء قوله عليه السلام: «التقوى هاهنا» معترضًا بين قوله «ولا يحقره»، وقوله الآتي: «بحسبِ امرئٍ ... » إلخ؛ فإنَّ كلًّا منهما متضمِّنٌ للنَّهي عن الاحتقار، وأنت عرفتَ أنَّ موقع الاعتراض بين الكلامين موقع التأكيد والتقرير.

وأفاد الحديثُ: أنْ لا عبرة بظواهر الصور؛ قال المصطفى [صلَّى الله عليه وسلَّم] (٦): «إنَّ الله -تعالى- لا ينظرُ إلى صُوركُم (٧) , ولا إلى أموالكم وأعمالكم، (٨) ولكن إنَّما ينظر


(١) المفاتيح في شرح المصابيح للمظهِري (٥/ ٢١٦).
(٢) وَصَلَ الشيء بالشيء، يصله وُصلا، وصلة، بالكسر والضم. انظر: تاج العروس (٣١/ ٧٨).
(٣) ما بين معقوفتين زيادة من نسخة (ب).
(٤) في (ب): فأخلَصَهُ. بالفاء.
(٥) في (ب): أمره الله تعالى على متابعة الهوى.
(٦) ما بين معقوفتين زيادة من نسخة (ب).
(٧) وفي (ب): ظواهركم.
(٨) هكذا وقع في النسختين: «وأعمالكم»، وهو مخالفٌ لما في المصادر, والصواب هو أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله لا ينظر إلى صُوركُم وأمْوالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم» وهو لفظ مسلمٍ في الصحيح (رقم ٢٥٦٤)، وهذا الوهم قديمٌ نبَّه عليه الحافظُ البيهقيُّ -رحمه الله- فقال -بعد سرده اللفظ الصحيح-: (هذا هو الصَّحيح المحفوظ فيما بين الحفَّاظ، وأمَّا الَّذي جرى على ألسنة جماعةٍ من أهل العلم وغيرهم: «إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أعمالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم» فهذا لم يبلغنا من وجهٍ يثبت مثله، وهو خلاف ما في الحديث الصحيح، والثَّابتُ في الرواية أولى بنا وبجميع المسلمين، وخاصَّةً بمن صار رأسًا في العلم يقتدى به، وبالله التوفيق). الأسماء والصفات (٢/ ٤٢٦). وقد وقع هذا الوهم في بعض نسخ رياض الصالحين كلِّها -كما قاله الشيخ الألبانيُّ في مقدِّمة تحقيقه للرياض ص (١٥) -، ومشى عليها ابن عَلَّان في شرحه فقال: (أي: إنَّ الأعمال الظاهرة لا تحصل بها التقوى، إنما تحصل بما يقع في القلب من عظيم خشية الله ومراقبته). دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين (٣/ ٢٤)، وانظر: السلسلة الصحيحة (٦/ ٣٣٠).

<<  <   >  >>