للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

١٣٦ - وَكُلُّ نِسَاءِ الْمُصْطَفَى أُمُّهَاتِنَا (١) ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .


(١) أي في تحريم نكاحهن، والاحترام، والتوقير، والإكرام لا في الخلوة بهنَّ ولا في حرمة بناتهنَّ، ونحو ذلك، كما أن أبوة النبي - صلى الله عليه وسلم - لنا أبوة دينية لا نسبية.
قال الإمام القرطبي في تفسير هذه الآية: [قوله تعالى: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} شرف اله تعالى أزواج نبيه - صلى الله عليه وسلم - بأن جعلهن أمهات المؤمنين أي في وجوب التعظيم، والمبرة، والإجلال، وحرمة النكاح على الرجال، وحجبهن - - رضي الله تعالى عنهن - بخلاف الأمهات، وقيل: لما كانت شفقتهن عليهم كشفقة الأمهات أنزلن منزلة الأمهات، ثم هذه الأمومة لا توجب ميراثا كأمومة التبني، وجاز تزويج بناتهن، ولا يجعلن أخوات للناس].
وقال العلامة الشنقيطي - رحمه الله في "أضواء البيان" (٦/ ٥٧٠ - ٥٧١): [قوله تعالى: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ}. قال ابن كثير: أي في الحرمة، والاحترام، والتوقير، والإكرام، والإعظام، ولكن لا يجوز الخلوة بهنّ، ولا ينتشر التحريم إلى بناتهن، وأخواتهن بالإجماع. اهـ. محل الغرض منه. وما ذكر من أن المراد بكون أزواجه - صلى الله عليه وسلم - أُمّهات المؤمنين هو حرمتهن عليهم، كحرمة الأُم، واحترامهم لهن، كاحترام الأُم إلخ. واضح لا إشكال فيه. ويدلّ له قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيّ}؛ لأن الإنسان لا يسأل أُمّه الحقيقية من وراء حجاب. وقوله تعالى: {إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَاّ اللَاّئِى وَلَدْنَهُمْ}، ومعلوم أنهن رضي اللَّه عنهن، لم يلدن جميع المؤمنين الذين هن أمهاتهم، ويفهم من قوله تعالى: {وَأَزْواجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ}، أنه هو - صلى الله عليه وسلم - أب لهم. وقد روي عن أُبيّ بن كعب، وابن عباس، أنّهما قرءا: {وَأَزْواجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} وهو أب لهم، وهذه الأبوّة أبوّة دينية، وهو - صلى الله عليه وسلم - أرأف بأُمّته من الوالد الشفيق بأولاده، وقد قال جلَّ وعلا في رأفته ورحمته بهم: {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءوفٌ رَّحِيمٌ}، وليست الأبوّة أبوّة نسب؛ كما بيّنه تعالى بقوله: {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مّن رّجَالِكُمْ}، ويدلّ لذلك أيضًا حديث أبي هريرة عند أبي داود والنسائي وابن ماجه: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إنما أنا لكم بمنزلة الوالد أعلمكم، فإذا أتى أحدكم الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها ولا يستطب بيمينه» - والحديث حسنه الشيخ الألباني، وقوى إسناده الشيخ الأرناؤوط -، وكان يأمر بثلاثة أحجار وينهى عن الروث والرمة، فقوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: «إنما أنا لكم بمنزلة الوالد»، يبيّن معنى أبوّته المذكورة، كما لا يخفى.].
مسألة: هل نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - أمهات الرجال والنساء، أم أمهات الرجال خاصة؟
قال الإمام القرطبي عقب كلامه السابق: [واختلف الناس هل هن أمهات الرجال والنساء، أم أمهات الرجال خاصة على قولين: فروى الشعبي عن مسروق عن عائشة - رضي الله عنها - أن امرأة قالت لها: يا أمة فقالت لها: (لست لك بأم إنما أنا أم رجالكم) قال ابن العربي: وهو الصحيح. قلت: لا فائدة في اختصاص الحصر في الإباحة للرجال دون النساء، والذي يظهر لي: أنهن أمهات الرجال والنساء تعظيما لحقهن على الرجال والنساء، يدل عليه صدر الآية: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} وهذا يشمل الرجال والنساء ضرورة، ويدل على ذلك حديث أبي هريرة، وجابر- قلت: يشير إلى ما ذكره قبل عبارته هذه بسطور، وهو ما رواه مسلم عن أبي هريرة، وعن جابر -رضي الله عنهما - مرفوعا: [مثلي ومثلكم كمثل رجل أوقد نارا فجعل الجنادب والفراش يقعن فيها وهو بذبهن عنها وأنا آخذ بحجزكم عن النار وأنتم تفلتون من يدي] واللفظ لجابر ودلالة الحديث هنا دلالة عامة فهو يدل على شفقة النبي على عموم أمته رجالاً، ونساءاً - فيكون قوله تعالى: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُم} عائدا إلى الجميع، ثم إن في مصحف أبي بن كعب: (وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم) وقرأ ابن عباس: (من أنفسهم وهو أب لهم وأزواجه أمهاتهم) وهذا كله يوهن ما رواه مسروق إن صح من جهة الترجيح، وإن لم يصح فيسقط الاستدلال به في التخصيص، وبقينا على الأصل الذي هو العموم الذي يسبق إلى الفهوم والله أعلم].
وأثر أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - الذي ذكره أخرجه ابن سعد في "الطبقات" (٨/ ٦٥، ٦٧، ١٧٨، ٢٠٠)، والبيهقي في "سننه" (٧/ ٧٠) من طرق عن فراس عن الشعبي عن مسروق عن عائشة به، ورواته ثقات غير فراس، فقال عنه ابن حجر في التقريب: صدوق يهم. وهذا الأثر ليس من أوهامه، وعليه فالإسناد حسن على أقل الأحوال. وله شاهد ضعيف رواه أحمد (٦/ ١٤٦) عن لميس أنها قالت: قالت امرأة لعائشة: يا أمه، فقالت عائشة: [إني لست بأمكن، ولكني أختكن]، وأعله الشيخ الأرناؤوط بجابر الجعفي، ويزيد بن مرة، وجهالة لميس. وقال ابن سعد (٨/ ١٧٨، ٢٠٠) عقب الحديث: قال الواقدي: فذكرت ذلك لعبد الله بن موسى المخزومي، فقال: أخبرني مصعب بن عبد الله بن أبي أمية، عن أم سلمة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها قالت أنا أم الرجال منكم والنساء] إلا أن الواقدي هذا متروك الرواية، والراجح عندي الصيرورة إلى قول أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها -، لعدم المعارض، وهو اختيار الإمام البغوي حيث قال في تفسيره: [واختلفوا في أنهن كن أمهات النساء المؤمنات؟ قيل: كن أمهات المؤمنين والمؤمنات جميعا، وقيل كن أمهات المؤمنين دون النساء روى الشعبي عن مسروق أن امرأة قالت لعائشة - رضي الله عنها -: يا أمه! فقالت: (لست لك بأم إنما أنا أم رجالكم) فبان بهذا أن معنى هذه الأمومة تحريم نكاحهن].

<<  <   >  >>