إنما أخرج على وجه الزجر والتهديد، وعلى نحو
قوله: (اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ) ، ولم يرد به التخيير لهم بين الكفر
والإيمان، ولا الإخبارُ عن كونهم مخيرين في ذلك، ورد المشيئة إليهم.
وقد رويَ عن ابن عباس أنه قال: "فمن شاء الله له الإيمان فليؤمن بمشيئته.
ومن شاء الله له الكفر فليكفر بمشيئته ".
فأمَّا قوله: (فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا) ، (فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا) ، فإنه غير معارضِ لإخبارِه بأن الأشياءَ كلها كائنة بإرادتِه، ومشيئته.
لأنه قد خبر في آياتٍ أخر أن هذه المشيئة التي ذكرها وأثبتها لهم لا تكون
وتوجد أو يشاء لهم كونَ ما أرادوه، ولا أن يشاءَ لهم أن يسوءَ ذلك الشيء
فقال سبحانه: (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ) .
لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (٢٨) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ
فأخبرَ أنّهم لا يشاؤون شيئا إلا أن يُشاءَ لهم أن يشاؤوه، وقد يُشاءُ مشيئَتُهم للشيء وإن لم يُشاؤوا ما شَاؤوه بأن يكون شائيا لتمنيهم لذلك الشيء، وإن لم يكن متمنيا لهم، وقال سبحانه: (لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (٢٨) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ) ، فنص لهم على أنهم لا يشاؤون الاستقامة
حتى يشاءَ لهم، وفي ضمن هاتين الآيتين أنني إذا شئت لكم أن تشاؤوا
الإيمان شِئتموه لا محالة، وإلا فلا وجهَ لتمدحَه بقوله: (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ) ، وقوله: (لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (٢٨) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) ، ولأنهم إذا شاؤوا الاستقامة على ما يقول المعتزلة فلم يشاؤوا ما شاء لهم أن يشاؤوا لم يكن لقوله: (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ) معنى، لأنه قد شاءَ اللهُ عندهم أن يشاؤوا ذلك، فلا يشأه، والمعقول من قول القائل: ما يُطلق فلان من محبسه إلا أن أشاء، أي: إذا شئتُ أن يُطلقَ أُطلقَ لا محالة، وأنّ كونَه في الحبسِ لا يكون إلا بمشيئته، وإلا فإذا شاء أن