أحدهما: أنه كان لا بد في وضع العادة ومستقَرها من أن يتحدث
الباقون من الأمّة بأنّه قد ذهب قرآن كثير وسور وآيات من سورٍ بقيت
منتثرةً بذهاب حفاظها، لأنه لا بدّ أن يكون علمُ ذلك مشهوراً مستقراً
عندنا في الأمّة، وإن كانوا لا يحفظون ذهاب الذاهب على ترتيبه ونظامه
وتعيُّنه كما يعلمُ أهلُ بلدٍ وإقليم من أقاليم المسلمين وقريةٍ من قراهم اليوم
أنّ من حفظ من الكهف إلى الناس فإنّه لم يحفظ جميع القرآن، وأن من
حفظ عشرين آيةً من سورة البقرة فلم يحفظ سائرها، وإن ما لم يحفَظْه زيد
من السور هي السورة التي تُسمَّى كذا وسورةَ كذا، وإن لم يحفظوا هم أيضاً
ذلك القدْرَ، لأنَّ القرآن كان أشهر عندهم وأظهر من أن يُخفى أمرُه، لأنهم
كانوا يَتَلَقون ذلك من رسول الله صلَّى الله عليه، سُورُهُ مرتبة منظومة على
سبيل ما يتلقنه الناسُ اليوم، وكان من لا يحفظ السورة منه يعلمُ أن في
القرآن سورةً تُدعى بكذا وإن كان لا يحفظها، هذه هي العادةُ في علم الناس
بالقرآن ومعرفتهم بجملته حُفاظاً كانوا له أو غير حُفاظ.
وإذا كان ذلك كذلك وجب أنه لو سقط من القرآن سورٌ وآياتٌ لهلاك من
كان يحفظُ ذلك أن يَعلَم الباقونَ من الأمةِ أنّه قد ذَهَبَ كثيرٌ من القرآن، وأن
يتحدثوا بينهم حديثاً لا يمكنُ معه الجهلُ بما ضاع من القرآن لذهاب حَفَظَته.
ولو كان منهم قولٌ في ذلك وتُحُدّثَ به لوجب أن يُنقل ذلك عنهم، ويتسع
ذكرُه فيهم، وفي علمنا بأنَ ذلك لم يكن: دليلٌ على بطلان هذه الدعوى.
والوجه الآخر: أنه لا يجوز في مسقرّ العادة أن يتفقَ القتلُ والموتُ
والهلاكُ بأي وجهٍ كان بجميع من كان يحفظُ الذاهب من القرآن وبقاءُ