دليل آخر: وممّا يدلُّ أيضاً على صحَّة نقل القرآن وأنّه هو المرسوم في
مصاحفنا على وجهه وترتيبه الذي رتَبه الله جل وعزَّ عليه، اتفاقنا والشيعةَ
على أنَّ عليَّاً عليه السلام كان يقرأُه ويُقرىءُ به، وأنه حكمه أيامَ التحكيم من فاتحته إلى خاتمته، وأقزَ من حكَّمه بإحياء ما أحيا وإماتة ما أماته، وأنه كان يحتجُّ ويستدلُّ به ورجعَ إليه، هذا ما لا خلاف بيننا وبينهم فيه، فوجب
بذلك أن يكون نقلُه وتأليفه صحيحاً ثابتا وأن يكون غيرَ منقوصٍ منه ولا
مزيدٍ فيه، ولا مرتَبٍ على غير الوجه الذي أمر عليه السلامُ بترتيبه عليه، لأنه لو كان فيه شيءٌ من ذلك لسَارعَ عليّ عليه السلامُ إلى إظهاره وإشهاره، ولكان تشدُّده فيه أعظم من تشدُّده في كل ما حاربَ ونابذَ عليه، ولم يُحكِّمْه ولم يقرَّهُ، وكان أحقَّ الناس وأولاهُم بذلك.
وقولُهم بعدَ هذا إلَّه وإن كان قد فعلَ جميعَ هذا فإنّه قد أظهر أحياناً ضد
ذلك، وأنه كان في إظهاره لذلك في تُقيةٍ وتحت غَلَبة: قولٌ باطلٌ ودعوى لا
برهانَ معها ولا شبهةَ في سقوطها، وأيُّ تقيةٍ تُعاب عليه مع كثرة أجناده
ونُصَّارِه، ونصبه الحربَ سجالاً مع أهل البصرةِ وصفَّينَ وحَرُوراء والنخيلة
والنهروان وقتل من قُتل في هذه المواقف لولا القِحَةُ وقلَّة الدِّين
والتحصيل، وسنتكلمُ بعد هذا في إبطال تعلُّقهم بهذه التقية، وشدّة وَهَاءِ
قولهم، ونذكُرُ ضروباً من الكلام فيها وما يعني اليسيرُ منها إن شاء الله.
فبطل بذلك ما قالُوه، وثبت أنَّ من مذهب علي عليه السلام في اعتقاده:
صحّة مُصحف الجماعة وسلامةَ نقله وتأليفه من التخليط والفسادِ مذهبُ
سائر الأمةِ في وقته ومن حدَثَ بعدَهُ.