هو منه، وطعنَ في ذلك أهلُ الزَيغِ والإلحاد، فكذلك حُكم القرآن في جواز
تغييره وتبديله، وإن كان الله تعالى قد حفظه على الأمة وجمعه. يقال لهم:
لا معنى لما أوردتموه، لأن مطاعنَ الملحدين وغلطَ المتأولين، وتحريفَ
الزائفين والمنحرفين، لا يمنع من إظهار الله تعالى تأويلَ كتابه بواضح الأدلة
والبراهين المنصوبة الناطقة بالحق، وصحيح النقل لأحكام الشرع، إما على
وجهٍ يوجب العلمَ أو العملَ دون العلم، على ما رتِّبت عليه عباداتنا، ولن
يخلّينا الله تعالى في جميع ذلك من حجة لائحة، ودلالة قاطعة ناطقة، وإن
صَرفَ النظرَ فيها أهلُ التقصير والجهل، فهم عندَنا في ذلك بمثابة المكذّب
بتنزيل القرآن، والجاحدِ أن يكونَ من عند الله، وأن يكونَ مُعجزا للرسول
- صلى الله عليه وسلم - وكل ذلك لا يُخرجه عن صحةِ نزوله وكونه آية للرسول، إذ كانت الحجج على ذلك باهرةً ظاهرةً، والقرآن الصحيح الذي يدّعون ضياعَه وذهابَ جمعه على الأمة غيرُ ظاهر ولا موجوب ولا منصوبٍ لنا عليه دليل يوصلنا إليه بعينه، ويُفرقُ لنا بينه وبين غيره، فشَتّان ما شبَّهتُم به وظننتم الاعتصامَ بذكره.
وإن قالوا: أفليسَ قد قال الله جل وعز: (وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (٣) .
وقال:(إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (١٢) .
فضمن هُدى العالمين وإن ضل منهم خلق كثير، يقال لهم: ليس الأمرُ على ما توهَّمتم، لأن الله جل وعز أراد بهاتين الآيتين أن يهديَ المؤمنين فقط ومَن في معلومه أن يهديَه وأن يأخذَ خلقه لنفعه والمصير إلى جنته، دون من أضلَّهُ وختمَ على قلبه وسمعه، وأخبر أنّ القرآنَ عمىً عليه، وأنه قد أضلَّه وضيق صدرَهُ وجعله حرجا وخلقه لنارِه، فإذا كان ذلك كذلك بطل ما توهّمتُم من أنه إذا جاز أن يهديَ الله من يُضل، ولا ينفعَ من يستضِر جاز أن يحفظَ ما ضاع، ويجمعَ ما افترقَ وتشذَّر وتبدَّل، وكلُّ هذا يدلُ على الهرب والوَغادةِ والتلفيق من المتعلَّق به.