إن هذا الحديث لم يرد به النبي - صلى الله عليه وسلم - التبليغ عن الله، ولا وضع قاعدة فقهية، ولا بيان حكم شرعي، وإنما هو رأي أبداه حول أمور تخضع للتجارب، وعمل العقل، فهو عليه السلام، لم يُبعث خبيراً زراعياً، ولا هذا من شأن الرسل والرسالات والأعمال الدنيوية البحتة لم ينزل الله فيها كتاباً، ولم يرسل من أجلها رسلاً، وإمما هي أمور يمارسها الإنسان بحرية، وينتقل من تجربة إلى تجربة ويرصد النتائج، ويختار الأصلح.
هذا هو مجال العقل والعلم التجريبي، لا يتدخل فيه الشرع إلا فيما يتعلق بالحل والحرمة، والجواز والكراهة.
يبين هذا كله قوله - صلى الله عليه وسلم - لما راجعه أصحاب النخل حين لم يكتمل لهم تمرهم بعد أن تركوا التأيير:
"إنما أنا بشر إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر" رواه مسلم.
وفي رواية:"ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئاً فخذوا به" رواه مسلم.
وقد حدث شبيه بهذا في مناسبات أخرى، مثلما حدث في غزوة بدر لما عسكر النبي بالجيش في موضع، ثم انتقل منه إلى موضع آخر، نزولاً على رأي بعض أصحابه.
ومثلما حدث في موادعة "غطفان" حين اقترح عليه السلام منحهم جزءاً من ثمار المدينة، نظير ألا يكونوا ظهيراً للمشركين على أهل المدينة، ثم رجع عنه نزولاً على رأي "السعدين" زعيمى الأوس والخزرج - رضي الله عنهم -.
هذا هو فقه هذه المسألة، ومنه يظهر جلياً أن منكري السنة قد ضلوا وأضلوا في دعواهم نفي العصمة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرددين مزاعم خصوم الإسلام من المبشرين الحاقدين والمستشرقين الحاسدين، والعلمانيين الجاهلين. وسيذهب كيدهم، ويبقى الحق شامخاً حتى قيام الساعة:
وهل يضر البحر أمسى زاخراً ... إن رمى فيه غلام بحجر؟!