ومنهم من فرق بينهما كما قال قدّس سرّه: ونقل عن المصئف رحمه الله إن هداه لكذا أو إلى كذا إنما يقال إذا لم يكن في ذلك فيصل بالهداية إليه، وهداه كذا لمن يكون فيه، فيزداد أو يثبت، ومن لا يكون فيه فيصل. قيل: ولا نزاع في الاستعمالات الثلاثة إلاً أنّ منهم من فرق بينهما بأنّ المتعدّي بنفسه هو الإيصال إلى المطلوب، ولا يكون إلاً فعل الله، فلا يسند لغيره كقوله:{لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا}[العنكبوت: ٦٩] ومعنى المتعدّي بالحرف الدلالة على الموصل، فيسند له وللقرآن والبيّ صلى الله عليه وسلم انتهى.
قيل: وعلى الفرق الأوّل يظهر الجواب عن النقض المشهور على تعريف الهداية بالدلالة الموصلة بقوله تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ}[فصلت: ١٧] إلخ إذ يجوز أن يكون التعريف للهداية المتعدّية بنفسها، والهداية في الآية متعدّية بالحرف، فترك المفعول بواسطة اختصاراً من غير احتياج إلى تجوّز ونحوه، وقيل: الهداية تتضمن معاني يقتضي بعضها تعديتها بنفسها وبعضها التعدية بالحرف، كالإرادة والإشارة والتلويح، وليس بشيء وسيأتي تتمته، واعترض على الفرق الثاني بقوله تعالى حكاية عن الخليل عليه الصلاة والسلام {يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا}[مريم، الآية؟ ٤٣] ونحوه، ودفعه بأنه إسناد مجازيّ مخالف للظاهر. قوله:(لا يحصيها عدّ) أي لا يحصى إفرادها الجزئية أحد يعدّ، وأصل الإحصاء العد بالحصى، ثم صار حقيقة في مطلق العدّ كما هنا، فإسناده إلى العدّ مجاز للمبالغة، ولما كان إطلاق نفيه يوهم عدم انحصار أنواعها وأجناسها استدرك ما يدفع ذلك الإيهام وقيل إنّ المصنف رحمه الله تعالى فسر الهداية المطلوبة بقوله اهدنا بالدلالة السالفة ثم قال وهداية الله إلخ ولم يقل، وهي تتنوّع لأنّ ما ذكر من الإفاضة والنصب والإرسال والإنزال، لا تصدق عليه الدلالة إلاً بضرب من التأويل، ولو سلم فالمقسم لهذه الأجناس خصوص هداية الله تعالى، فالوجه أن يقال المقسم ما يطلق عليه هداية الله بوجه، أو فيه مضاف مقدّر أي أسباب هداية الله.
(أ+دول) الظاهر أنّ الدلالة الساباتة أعمّ من هذه، كما ينطق به وينادي عليه فحوى كلامه، فكون ما ذكر لا يطلق عليه الدلالة غير مستقيم، فإنّ إطلاقه الهداية عليه يأباه والإظهار في مقام يقتضي ظاهره الإضمار إشارة إلى أنه ليس عين ما قدّمه، والمر١د بكونها هداية الله أنها بخلقه وإحسانه، فلا ينافي إسنادها لغيره كما يشهد له ما ذكره من قوله:{يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا}[الأنبياء: ٧٣] فافهم. قوله:(١ لأوّل إفاضة القوى إلخ) المراد بالإفاضة الإيجاد بالفيض، وهو الإحسان والجود الإلهي، والقوى جمع قوّة وهي لغة بمعنى القدرة، والتهيؤ كما فاله
الراغب وفي اصطلاح الحكماء كما قالوه مبدأ التغير من أمر إلى آخر من حيث هو آخر، وهذا هو المراد هنا، وهي عند الأطباء ثلاثة أجناس لأنّ فعلها إمّا مع شعور أو لا، والأوّل يسمى فوّة نفسانية، والثاني إن اختص بالحيوان فقوّة حيوانية والاً فهي طبيعية، وعند الفلاسفة أربعة لأنّ كل قوّة إمّا أن يصدر عنها فعل واحد أو أكثر، وعلى التقديرين إمّا مع شعور أو لا، فالتي فعلها متغير مع الشعور قوّة حيوانية والتي فعلها متغير بدونه قوّة نباتية، والتي فعلها غير متغير مع الشعور قوّة فلكية، والتي بلا شعور طبيعية إن كانت في البسائط كالنار وخاصية في المركب كتخدير الأفيون، وهذه هداية إلى طريق التعقل والإحساس وفيها ما لا يختص بالإنسان، وإلى العامّ منها الإشارة بقوله تعالى:{أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى}[طه: ٥٠] واثبات الحواس الباطنة وإن كان رأي الفلاسفة، فقد ذهب إليه كثير من أهل السنة، وقال الغزاليّ: الذي أبطلوه استقلالها بالإدراك والتأثير وما أثبتوه لها مما هو مبنيّ على أصولهم الواهية ومجرّدها لا ضير فيه لما فيه من الحكم البديعة والقدرة الباهرة. وفي شرح المقاصد: لا يخفى إنا إذا جعلنا القوى الجسمانية ا-لة للإحساس، وادراك الجزئيات والمدرك هو النفس ارتفع النزاع، فلا وجه لما قيل: من أنّ اللائق بالمصتف أن لا يذكرها لابتنائها على هذيانات الفلاسفة، ونفصيلها في مطوّلات الكلام، وكتب الحكمة، والمشاعر الحواس الظاهرة جمع مشعر جعلت محلاً للشعور، وهو الإحساس، وجعل الأولى حواس والثانية مشاعر تفنناً. قوله:(والثاتي نصب الدلائل إلخ) الظاهر أنّ المراد بهذه القوّة النظرية والفكر في الأنفس، والآفاق حتى يعلم أنّ له صانعا ورباً قديراً، ولأجل هذا أوح الله فيه العقل والقوى