الخَصمَين على الآخَرِ، وعن الإقبالِ عليه دونَه، وعن مُشاوَرتِه والقيامِ له دون خَصمِه؛ لِئلَّا يَكون ذَريعةً إلى انكسارِ قَلبِ الآخَرِ وضَعفِه عن القيامِ بحُجَّتِه وثِقَلِ لِسانِه بها".
وإنْ سلَّم أَحدُهما رَدَّ، ولم يَنتظِر سلامَ الآخَرِ، ويَحرُم أنْ يُسارَّ أَحدَهما، أو يُلقِّنَه حُجَّتَه، أو يُضِيفَه؛ لأنه إعانةٌ له على خَصمِه، وكَسرٌ لقَلبِه، أو يُعلِّمَه كيف يَدَّعي، إلا أنْ يَترك ما يَلزَمُه ذِكرُه في الدَّعوَى.
مسألة: لا يَجوز للقاضِي أنْ يَقضِيَ مع وجودِ مُشوِّشٍ للفِكرِ، كالغضبِ، ومِثلُه إذا كان حاقِنًا، أو في شدَّةِ جوعٍ، أو عطشٍ، أو هَمٍّ، أو مَلَلٍ، أو كسلٍ، أو نُعاسٍ، أو بَردٍ مؤلمٍ، أو حَرٍّ مزعجٍ؛ لأنَّ ذلك كلَّه يَشغل الفِكرَ الذي يَتوصَّل به إلى إصابةِ الحقِّ.
ولا يَخلُو الغضب مِنْ أَمرَين:
الأولُ: أنْ يَكون الغضبُ يَسيرًا لا يَمنع مِنْ فهمِ القضيَّةِ وتَصوُّرِها: فيَجوز القضاءُ؛ لِما روَى الزُّبَيرُ ﵁: "أنَّه اختَصَم مع رجلٍ مِنْ الأنصارِ في شِرَاجِ الحَرَّةِ، فقال النبيُّ ﷺ للزُّبَيرِ:«اسْقِ ثُم أَرسِل الماءَ إلى جارِكَ»، فقال الأنصاريُّ: أنْ كانَ ابنَ عَمَّتِك؟ فغَضِبَ رسولُ اللهِ ﷺ، وقال للزُّبَيرِ:«اسْقِ ثُم احْبِسِ الماءَ حتَّى يَبلُغَ الجَدْرَ». رَواه البخاريُّ ومسلمٌ. فحَكَم في حالِ غَضَبِه.
الثَّاني: أنْ يَكون الغضبُ كثيرًا، فلا يَجوز القضاءُ في هذه الحالِ؛ لأنَّ الكثيرَ يَشغَل الفِكرَ؛ لخبرِ أَبي بَكرةَ مَرفوعًا:«لا يَقضِيَنَّ حاكمٌ بَينَ اثنَينِ وهو غَضبانُ». أخرجَه البخاريُّ، ومسلمٌ.