للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ثَنا (١) يحيى بن أبي طالب ثنا علي بن عاصم ثنا إسماعيل بن أبي خالد عن أبي عمرو الشيباني قال: قال موسى عليه السلام يوم الطور: يا رب إن أنا صلَّيت فمن قِبلِك، وإن أنا تصدَّقت فمن قِبَلك، وإن أنا بلَّغت رسالتك فمن قِبَلِك، فكيف أشكرك؟ قال: (يا موسى الآن شكرْتَني). وفي لفظ: إذا عرفت أنَّ النعم مِنِّي فقد رضيتُ بذلك منك شكرًا. وهذا حق فجميع ما نتعاطاه باختيارنا نعمة من اللَّه تعالن علينا؛ إذ جوارحنا وقدرتنا وإرادتنا ودواعينا وسائر الأمور التي هي أسباب حركاتنا وسكناتنا من خلق اللَّه ونعمته فنحن نشكر بنعمته نعمته. وإلى هذا المنزع أشارَ خطيب العلماء الشافعيّ رضي اللَّه عنه حيث قال: الحمد للَّه الذي لا يؤدَّى شكر نعمة من نعمه إِلَّا بنعمة منه توجب على مؤدِّي ماضي شكر نعمه بأدائها نعمة حادثة يجب عليه شكرها ولا يبلغ الواصفون كنه عظمته؛ الذي هو كما وصف نفسه وفوق ما يصفه به خلقه. انتهى وأنشد محمود الورَّاق لنفسه:

إذا كان شكري نعمة اللَّه نعمة ... عليَّ له في مثلها يجب الشكر

فكيف بلوغ الشكر إِلَّا بفضلهِ؟ ... وإن طالت الأيام واتصل العمر

ولم يزد العلماء في هذا الركن أكثر ممَّا ذكرناه. وعندي أنَّه يتعيَّن على ذي النعمة أيضًا أن ينظرَ إليها -وإن قلَّت- بعينِ التعظيم، لكونها من قِبَلِ اللَّه تعالى؛ فإنَّ قليله لا يُقال له قليل، وإلى نفسه بالتحقير بالإِضافة إليها معترفًا بأنه ليس أهلًا لها وأن أصله نطفة من منيّ تُمْنَى (٢) وقد وصَّله اللَّه إليها لا باستحقاق عليه بل بفضل منه ولا يخفى عليك أن من وصلت إليه هدية من ملك فاستقلَّها ولم يعبأ بها فإنَّ الملك ينقم عليه ويشدِّد عقوبته، ويأخذ في نفسه منه، ويمنع عنه العطاء؛ وإن استعظمها واستحقرَ نفسه بالنسبة إليها فإنَّ الملك يحب ذلك منه، ويحمله هذا الأمر على إسداء نعمة أخرى. والربُّ تعالى لا تخفى عليه خافية. فمهما وقع في


(١) هو اختصار من حدثنا.
(٢) تمنى: تصب وتراق عند الجماع. وهذا اقتباس من قوله تعالى: {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى} الآية ٣٧ من سورة القيامة. وقرأ الجمهور (تمنى) على أنَّه وصف لنطفة، وقرأ حفص وآخرون (يمنى) على أن الجملة وصف (منى).

<<  <   >  >>