الكذب. فلقد كثر منهم الكذب ونقل البهتان لأجل حُطَام من الدنيا. ومن حقِّه حمل رسائل الإِخوان إليهم؛ ففي ذلك أجرٌ عظيم وشكرٌ لهذه النعمة. وحقٌ على كل بريدي ألَّا يجهد (١) الفرس بل يسوقها بقدر طاقتها. وقد كثر منهم سوق الخيول السَوْقَ المزعج بحيث تَهلك تحتهم. أفما علموا أنها من خلق اللَّه تعالى. فإذا رأيت بريديًا يسوقُ الخيل في أمر لا يجوز حتى يُهلكها، ثم يَقْدَم على أهل بلد فيزعجهم، ثم يعود للسلطان فيدلّ على عورات المسلمين ويُغري الظلمة بالمساكين، الغافلين والغافلات، ثم يزيل اللَّه سبحانه عنه النعمة، ويذيقه أنواع الذلّ والإِهانة فلا تعجب، واعلم أن ذلك من اللَّه عدل.
المثال السابع عشر
ناظر الجيش: فمن حقه النظر في حالهم، وتجريد من يرى فيه المصلحة والكفاية والقدرة. وحرام عليه أن يجهز عاجز الفقراء وغيره، أو أن يُغري به الملك. بل عليه الدفع عنه بما يمكنه؛ فإنَّه ناظر عليه كناظر اليتيم. وعليه توزيع التجريدات على حسب مصلحة المسلمين؛ فإنَّه مطالب بذلك كله، فليتَّق اللَّه ربه. ومن قبائح ديوان الجيش إلزامهم الفلاحين في الإِقطاعات بالفلاحة، والفلّاح حرّ لا يد لآدميّ عليه وهو أمير نفسه. وقد جرت عادة الشام بأن من نزح من دون ثلاث سنين يُلزم ويُعاد إلى القرية قهرًا، ويلزم بشد الفلاحة. والحال في غير الشام أشد منه فيها. وكل ذلك لا يحلّ اعتماده، والبلاد تعمر بدون ذلك. بل إنَّما تخرب بذلك؛ لأنهم يضيقون على الناس فيضيق اللَّه عليهم. ومن قبائحهم أنهم إذا اعتمدوا شيئًا ممَّا جرت به عوائدهم القبيحة يقولون: هذا شرع الديوان؛ والديوان لا شرع له، بل الشرع للَّه تعالى ولرسوله -صلى اللَّه عليه وسلم-. فهذا الكلام ينتهي إلى الكفر؛ وإن لم تنشرح النفس لتكفير قائله؛ فلا أقلّ من ضربه بالسياط؛ ليكفّ لسانه عن هذا التعظيم الذي هو في غُنية عنه بأن يقول: عادة الديوان أو طريقه أو نحو ذلك من الألفاظ التي لا تنكر.
(١) يقال: جهدت الدابة وأجهدتها: حملت عليها في السير فوق طاقتها.