ما لم يَخْلق اللَّه، وإنِّي أحب الفتنة، وأكره الحق، وأقول: إنَّ اليهود قالت حقًا، وإنَّ النصارى قالت حقًا، ومعي زرع ينبت بغير بَذْر، وسراج يضيء بغير نار، وأنا أحمد النَّبيّ، وأنا ربَّكم، وأرفعكم وأضعكم. فقاموا إليه، وكادوا يأتُون على نَفْسه، وقالوا: لا كفر فوق هذا الكفر، وصاروا به إلى المأمون. فلمَّا مثَل بين يديه قال له: ما الذي قلت؟ قال: لي حاجة إلى أمير المؤمنين، ولم أصل إليه، وعرفت أنِّي إن أقل هَذا أمثلْ بين يديه. وأعادَ القول، ثم أخذ يتأوَّل، فقال له: أما قولي: عندي ما ليس عند اللَّه، فعندي الظلم والجور. وأمَّا قولي: لي ما ليس للَّه، فإنَّ لي صاحبة وولدا، وليس للَّه تعالى صاحبة ولا ولد. وقولي: ومعي ما لم يخلق اللَّه: القرآن. والفتنة: المال والولد. والحق الموت. والزرع بغير بذر: شعر الرأس. والسراج المضيء بلا نار: العينان. والحق الذي قالته اليهود والنَّصارى: ما أشار اللَّه إليه بقوله: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ} أمَّا قولي: وأنا أحمد النَّبيِّ فالنَّبيّ منصوب على المفعولية، بأحمد، وأحمد فعل، فأنا أحمد نبيّنا محمدًا -صلى اللَّه عليه وسلم- وأشكره. وأنا ربَّكم: صاحب كمٍّ، أرفع ذلك الكم، وأضعه. فاستحسن المأمون ذلك منه، وقضى حاجته، وأصغى إلى كلامه. قلت: وهذا الاطلاق الذي أطلقه هذا الملغز مستهجن مستقبح؛ ولا يجوز عندي ذكره مطلقًا؛ لما فيه من إيهام الكفر. ولكن بتقدير إطلاقه لا ينبغي الإقدام على التكفير من غير تأمُّل وتفحُّص.
المثال الثامن والأربعون
المدرِّس: وحقّ عليه أن يُحسن إلقاء الدرس، وتفهيمه للحاضرين. ئم إن كانوا مبتدئين فلا يلقي عليهم ما لا يناسبهم من المشكلات، بل يدرِّبهم ويأخذهم بالأهون فالأهون، إلى أن ينتهوا إلى درجة التحقيق. وإن كانوا منتهين فلا يلقي عليهم الواضحات، بل يدخل بهم في مشكلات الفقه، ويخوض بهم عُبَابه الزاخر. ومن أقبحِ المنكرات مدرّس يحفظ سطرين أو ثلاثة من كتاب، ويجلس يلقيها ثم ينهض؛ فهذا إن كان لا يقدر إلَّا على هذا القدر فهو غير صالح للتدريس، ولا يحلُّ له