الصلاح أو مختصره المسمَّى بالتقريب والتيسير للنوويّ. ونحو ذلك فحينئذٍ ينادى من انتهى إلى هذا المقام بمحدِّث المحدثين وبخاريِّ العصر، وما ناسبَ هذه الألفاظ الكاذبة. فإنَّ من ذكرناه لا يُعَدُ محدِّثًا بهذا القدر؛ إنَّما المحدِّث من عرف الأسانيد، والعلل وأسماء الرجال والعالي والنازل، وحفظ مع ذلك جملة مستكثرة وسمع الكتب الستة ومسند أحمد بن حنبل وسنن البيهقي، ومعجم الطبراني، وضمَّ إلى هذا القدر ألف جزء من الأجزاء الحديثية. هذا أقل درجاته. فإذا سمع ما ذكرناه، وكتَبَ الطِباق، ودار على الشيوخ، وتكلَّم في العلل والوَفَيَات والأسانيد كان في أول درجات المحدِّثين، ثم يزيد اللَّه من شاء ما شاء.
ومنهم فرقة ترفّعتْ، وقالت: نَضُمّ إلى الحديث الفقه؛ وكان غايتها البحث في الحاوي الصغير لعبد الغفار القزويني؛ والكتابِ المذكور أعجوبة في بابه، بالغ في الحسن أقصى الغايات؛ إلَّا أنَّ المرءَ لا يصير به فقيهًا ولو بلغَ عَنان السماء. وهذه الطائفة تُضيع في تفكيك ألفاظه، وفهم معانيه زمانًا لو صرفته إلى حفظ نصوص الشافعيّ وكلام الأصحاب لحصلت على جانب عظيم من الفقه، ولكن التوفيق بيد اللَّه تعالى.
ومنهم طائفة صحيحة العقائد، حَسَنَةُ المعرفة لِلْفروع، إلَّا أنَّها لم تَرع جانب اللَّه حقَّ الرعاية، فكان علمها وبالًا عليها في الحقيقة! قال النَّبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أشدُّ (١) الناس عذابًا عالمٌ لم ينفعه اللَّه بعلمه" وعنه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أوَّل ما يُسَعَّرُ يوم القيامة عالمٌ فتندلق أقتابه في النار فيدورُ فيها كما يدورُ الحمار برحاه فيجتمع إليه أهل النار فيقولون: يا هذا، ألستَ كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟! فيقول: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكُمْ عن المنكرِ وآتيه" وفي الحديث: "إنَّ أشدَّ الناس حسرة يوم القيامة رجلان: رجل علم علمًا فيرى غيره يدخل به الجنة لعمله به، وهو يدخل به النار لتضييعه العمل به، ورجل جمعَ
(١) هذا الحديث ورد في الترغيب والترهيب عن الطبراني والبيهقي بلفظ "أشد الناس عذابًا يوم القيامة عالم لم ينفعه علمه".